في خضمّ الأزمة السياسية في السنغال، شهدت غينيا بيساو في أواخر نوفمبر 2025 تطورًا مفاجئًا حين أعلن عدد من الضباط إيقاف المسار الانتخابي واعتقال الرئيس عمر سيسوكو إمبالو، قبل أنْ يُفرج عنه وينتقل إلى السنغال ومنها لاحقًا إلى جمهورية الكونغو (برازافيل).
ومع أنّ البيان الرسمي لإيكواس والاتحاد الإفريقي وصف ما جرى بأنه “تغيير غير دستوري للحكم”، بقيت طبيعة الحدث موضع خلاف، إذْ اعتبرت قوى سياسية بساوية، إضافة إلى الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان، أنّ الأمر لم يكن انقلابًا كامل الأركان؛ بل خطوة مرتبطة بالخلاف على نتائج الانتخابات ومحاولة للالتفاف على احتمال خسارة الرئيس المنتهية ولايته.
وفي خضم هذه التطورات، برزت السنغال، بوصفها الدولة الأكثر انخراطًا في محيطها الإقليمي، باعتبارها طرفًا محوريًّا في إدارة الأزمة؛ لكنّ مقاربتها لم تأتِ هذه المرة منسجمة بالكامل.
فقد تبنّى الرئيس باسيرو جوماي فاي الموقف التقليدي للدولة السنغالية، من خلال إدانة الانقلاب واستضافة إمبالو في دكار، بينما قدّم رئيس الوزراء عثمان سونكو قراءة مغايرة، واصفًا ما حدث بأنه “خدعة سياسية”، وداعماً السردية التي تتبنّاها المعارضة في بيساو حول مسؤولية إمبالو عن تفجير الأزمة.
وقد وجد هذا الموقف أصداءً مباشرة لدى فاعلين سياسيين في غينيا بيساو، بينهم المرشح المستقل فرناندو جاز، الأمر الذي أعطى الخلاف داخل السلطة السنغالية بُعدًا إقليميًا غير معتاد.
وتشير المعلومات الواردة من مصادر ميدانية سنغالية إلى أنّ انتقال إمبالو لاحقًا من دكار إلى برازافيل جاء بناءً على طلبه، بعد أنْ اتضح أنّ وجوده في السنغال لا يحظى بقبول كامل داخل الحكومة، خصوصاً من جانب رئيس الوزراء سونكو، ما دفعه لطلب الاستضافة لدى الرئيس الكونغولي دينيس ساسو نغيسو.
ويضيف هذا التطور طبقة جديدة على المشهد، لأنّ إدارة دكار للأزمة لم تعد محصورة في الاعتبارات الدبلوماسية؛ بل أصبحتْ مرتبطة بحسابات داخليّة تخص موقع كلٍّ من الرئيس ورئيس الوزراء، وتأثير ذلك على قدرة الدولة على تبنّي موقف خارجي موحّد.
وتأتي أهمية هذا المقال منْ كونُ الأزمة في غينيا بيساو لا تقتصر على حدودها فحسب؛ بل تمسّ مباشرة الأمن القومي السنغالي، خصوصاً في إقليم كازامانس الذي يشهد نشاطًا للجماعات المسلحة وشبكات التهريب العابرة للحدود، إلى جانب مكانة السنغال في الإيكواس وفي بنية الأمن الإقليمي لغرب إفريقيا.
وفي ظلّ استمرار الأزمة السياسية في السنغال، يصبح فهم تباين المواقف داخل دكار جزءًا أساسيًا من تحليل كيفية تعامل الدولة مع أزمة تمسّ عمقها الأمني ودوائر نفوذها التقليدية.
ولتحقيق ذلك، ستركّز هذه الورقة على تحليل أربعة جوانب رئيسة، وهي:
- الأزمة السياسية في السنغال وكيف انعكس تباين الموقف الرسمي على إدارة الملف،
- حسابات الأمن القومي التي توجه تحركات دكار تجاه الانقلاب،
- التفاعلات الإقليمية وتباين مواقف إيكواس تجاه ما جرى،
- تداعيات الأزمة على الاستقرار الداخلي والإقليمي، والخيارات المتاحة لتجنّب اتساع دائرة التوتر.
1. الأزمة السياسية في السنغال وتباين الموقف الرسمي
تفاعلت السنغال مع أزمة غينيا بيساو في ظل لحظة داخلية حساسة، تتسم بوجود روايتين في قمة السلطة التنفيذية، وهو ما جعل إدارة دكار للملف مرتبطة بميزان القوة الداخلي بقدر ارتباطها بحسابات السياسة الخارجية. فقد تبنّى الرئيس باسيرو جوماي فاي، منذ اللحظة الأولى، موقفًا متسقًا مع التوجّه الدبلوماسي التقليدي للسنغال، الذي يعطي الأولوية لحماية الاستقرار الإقليمي ورفض التغييرات غير الدستورية.
وانسجم بيان وزارة التكامل الإفريقي والشؤون الخارجية مع هذا الخط؛ حين أدان الانقلاب، واستقبل الرئيس المخلوع عمر سيسوكو إمبالو في دكار بوصفه رئيسًا منتخبًا أُطيح به بالقوة.
وعلى الجانب الآخر، اختار رئيس الوزراء عثمان سونكو رواية مخالفة. فقد وصف الحدث بأنه “خدعة سياسية”، مشيرًا إلى أنّ ما جرى لا يرقى إلى انقلاب بالمعنى الكامل، وأنّ جذور الأزمة ترتبط بما وصفه بـ “الهندسة السياسية” التي أحاطت بالعملية الانتخابية في بيساو.
ولعلّ ما أعطى موقف سونكو زخمه الإقليمي هو الدعم الذي تلقّاه من بعض القوى السياسية في غينيا بيساو ذاتها، ومن بينها المرشح المستقل فرناندو جاز الذي أعلن صراحة تأييده لتحليل رئيس الوزراء، واعتبر أنّ إمبالو كان يجب أن ْيبقى في بلده لمواجهة تبعات الانتخابات بدلاً من اللجوء إلى الخارج.
ويكتسب هذا التباين دلالة إضافية بالنظر إلى أنّ سونكو كانت تربطه في السابق علاقة جيدة مع إمبالو، إذْ تقاطعت مواقف الرجلين في لحظات معينة خلال السنوات الماضية، خصوصاً حين حاول إمبالو، في فترة توتر المشهد السنغالي، أنْ يصوغ خطاباً وديًّا تجاه المعارضة السنغالية.
لكنّ هذه العلاقة تراجعت تدريجيًا مع صعود “باستيف” إلى السلطة، ثم جاءت الأزمة الأخيرة لتكشف عن تحوّل واضح. ويعود ذلك إلى أنّ سونكو أصبح ينظر إلى سلوك إمبالو من زاوية سياسية داخلية متمركزة حول السياق السنغالي (Senegal-focused)؛ أيْ كيف سينعكس دعم أو معارضة الرواية الرسمية على موقع رئيس الوزراء داخل السلطة وعلى رصيده الشعبي الذي بناه على خطاب مناوئ للنخب التقليدية في المنطقة.
وعليه، لم يعد الخلاف السنغالي حول غينيا بيساو مجرد اختلاف في تقييم حدث خارجي؛ بل جزءًا من إعادة صياغة العلاقة بين الرئيس ورئيس الوزراء داخل منظومة الحكم الجديدة.
وبذلك يظهر الانقسام كعامل مؤثر في قدرة السنغال على بلورة موقف موحد، لا سيما حين يتعلق الأمر بملف يمسّ الأمن القومي مباشرة.
2. حسابات الأمن القومي في تعامل السنغال مع انقلاب غينيا بيساو
إنّ التعامل السنغالي مع انقلاب غينيا بيساو يُعَدّ جزءًا من رؤية أمنية واسعة النطاق تشكّلتْ عبر عقود من الزمن، وترتكز على إدراك راسخ بأنّ استقرار الجارة الجنوبية عنصر أساسي في حماية الداخل السنغالي، وخصوصا في إقليم كازامانس غير المستقر.
وقد دفعتْ هذه القناعة السنغال إلى التحرك سريعا، سواء عبر استضافة إمبالو أو عبر التواصل المبكر مع شركائها الإقليميين لاحتواء تداعيات الحدث.
وترتبط حساسية الملف بعدة عوامل، أبرزها أنّ الحدود بين البلدين تشكّل أحد الممرات التقليدية لحركة الجماعات المسلحة وشبكات التهريب، وهو ما يجعل أيّ اضطراب سياسي في بيساو عرضة للترجمة الأمنية المباشرة على الجانب السنغالي.
وتدرك دكار تماماً أنّ إعادة إنتاج حالة عدم اليقين في غينيا بيساو قد تمنح بعض الفصائل المسلحة، أو شبكات الجريمة فرصة للعودة إلى النشاط، في وقت تعمل فيه الحكومة على تثبيت الوضع في كازامانس بعد سنوات من المفاوضات والخفض النسبي للتوتر.
ومن هذا المنظور، جاء قرار استضافة إمبالو مدفوعاً بالحسابات الأمنية قبل السياسية. فوجود الرئيس المخلوع في دكار منح السلطات السنغالية نافذة أولية للتعامل مع الأزمة، وتخفيف احتمالات حدوث تصعيد سريع قد يضر بالاستقرار الحدودي.
غير أنّ هذه الخطوة لم تكن خالية من التعقيدات الداخلية؛ لأن موقف رئيس الوزراء عثمان سونكو الرافض عمليّاً لاستضافة إمبالو خلق بيئة سياسية لا تسمح بتحويل دكار إلى محطة دائمة للرجل.
ويُظهر انتقال إمبالو لاحقًا إلى جمهورية الكونغو جانباً آخر من الحسابات الأمنية والدبلوماسية. فذهابه إلى برازافيل أضحى مخرجاً يسمح لدكار بتخفيف الضغط الداخلي، وفي الوقت نفسه يمنع تحول السنغال إلى طرف مباشر في صراع سياسي مفتوح داخل غينيا بيساو.
كما أنّ الطلب الذي قدّمه إمبالو نفسه للحصول على استضافة الرئيس ساسو نغيسو يشير إلى أنّ استمرار وجوده في السنغال لم يعد يتماشى مع موازين القوى داخل دكار، وأنّ ملفه أصبح عبئًا يصعب على الحكومة السنغالية، بفرعيها، تحمّله لفترة أطول.
وبذلك، يتبين لنا أنّ المقاربة السنغالية للأزمة تستند إلى معادلة دقيقة، وهي: الحفاظ على الاستقرار الحدودي، ومنع امتداد الفوضى إلى كازامانس، وفي الوقت ذاته تجنب الدخول في مسار تصادمي داخل السلطة التنفيذية نفسها.
3. تفاعلات إقليمية وتباين مواقف إيكواس
على المستوى الإقليمي، أعاد انقلاب غينيا بيساو إظهار هشاشة بنية الأمن الجماعي في غرب إفريقيا؛ حيث اتضح أنّ الإيكواس تواجه صعوبة متزايدة في بلورة موقف موحّد تجاه التحولات السياسية المتسارعة في المنطقة. فرغم إصدار المنظمة بيان إدانة فوري، فإنّ تباين المواقف داخل العواصم المؤثرة، ولا سيما السنغال ونيجيريا، كشف عن اختلاف في قراءة الحدث وأسبابه.
ففي الوقت الذي تبنّت دكار موقفاً رسميًّا يعتبر ما حدث انقلاباً يجب رفضه، جاءت تصريحات الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان، الذي يتمتع بثقل في وساطات غرب إفريقيا؛ لتقدم رواية مختلفة، مشيراً إلى أنّ ما وقع “لا يرقى إلى انقلاب عسكري كامل”؛ بل هو نتاج صراع سياسي حول الانتخابات.
وقد عززتْ هذه التصريحات، إلى جانب مواقف قوى معارضة في بيساو، الشعور بأنّ الإيكواس لم تعد قادرة على فرض سردية واحدة في الأزمات السياسية.
ويضيف تباين الموقف داخل القيادة السنغالية بعداً آخر لهذه الإشكالية؛ لأن دولًا في المنطقة تراقب بدقة الفجوة بين الرئيس فاي ورئيس الوزراء سونكو، وتقرأها باعتبارها مؤشراً على احتمالية تغيّر موقع السنغال في المشهد الإقليمي.
فالسنغال كانت دائماً أحد أعمدة الموقف الصارم لإيكواس تجاه الانقلابات، وقد لعبت دورًا مهمًّا في أزمات سابقة مثل أزمة غامبيا عام 2017. أما اليوم، فإنّ الخطاب المختلف الذي قدمه سونكو يتيح لبقية الدول مساحة أكبر للتشكيك في موقف دكار أو استغلال الانقسام الداخلي لموازنة النفوذ السنغالي.
ويأتي هذا كله على خلفية تفكّك تدريجي في النظام الإقليمي، بعد خروج مالي والنيجر وبوركينا فاسو من الإيكواس واعتناقها خطًا سياسيًا جديدًا في إطار تحالف الساحل (AES). وهذا يجعل أيّ انقسام بين أعضاء المنظمة، خصوصاً الدول المحورية، عاملاً يزيد من إضعاف قدرتها على التدخل في الأزمات، بما فيها الأزمة الحالية في غينيا بيساو.
4. تداعيات الأزمة على الاستقرار الداخلي والإقليمي
تتجاوز آثار الأزمة اللحظة الراهنة في بيساو لتطال السنغال دوائر أوسع إقليميًّا، خصوصا في ظل استمرار التباين داخل القيادة في دكار. داخليًّا، الخلاف بين الرئيس ورئيس الوزراء يزيد الضغط على المؤسسات التنفيذية، ويطرح أسئلة حول قدرة الحكومة على تقديم موقف موحّد في القضايا الخارجية التي ترتبط مباشرة بالأمن القومي.
كما أنّ هذا التباين ينعكس على الشارع السنغالي الذي يتابع بدقة العلاقة بين الرجلين منذ الانتخابات الأخيرة، ما يجعل أي تطور في الملف الإقليمي قابلًا للترجمة السياسية داخل البلاد.
أمّا على مستوى الإقليم، فإنّ تأثير الأزمة يبدو أكثر وضوحًا في ثلاثة مسارات أساسية، وهي:
- أولها يتعلق بملف كازامانس؛ حيث قد يؤدي عدم الاستقرار في غينيا بيساو إلى خلق ظروف أكثر هشاشة على الحدود، بما قد يشجع بعض الفصائل المسلحة أو شبكات التهريب على إعادة التموضع أو توسيع نشاطها.
- ثانيها يتصل بدور السنغال في غرب إفريقيا، إذْ يُنظر إلى الانقسام الداخلي باعتباره عاملًا قد يؤثر على فعالية دكار داخل إيكواس، خصوصًا إذا تباعدت مواقف الرئيس ورئيس الوزراء في أزمات لاحقة.
- ثالثها يرتبط بغينيا بيساو نفسها؛ حيث يبقى المستقبل السياسي للبلاد مفتوحاً، مع استمرار المجلس العسكري في إعادة ترتيب السلطة، ووجود تباينات واضحة بين القوى السياسية بشأن ما جرى وحول توقعات المرحلة الانتقالية.
ومع هذا المشهد المعقّد والمركب، تصبح الأزمة عامل ضغط إضافي على توازنات غرب إفريقيا، خاصةً أنّ المنطقة تشهد منذ سنوات سلسلة من الانقلابات والتحولات السياسية التي أضعفت القدرة الجماعية على إنتاج تسويات مستقرة.
لذا، فإنّ أيّ تباين داخل دولة محورية مثل السنغال لا يبقى في حدودها؛ بل ينعكس مباشرة على ملفات الأمن الإقليمي وعلى وضع الإيكواس كفاعل قادر على التدخل.
5. الخيارات السياساتية وديناميات الخروج من الأزمة
تُظهر الأزمة السياسية في السنغال أنّ قدرة الدولة على إدارة ملف غينيا بيساو باتتْ مرتبطة بتوازن دقيق بين الاعتبارات الداخلية، ومتطلبات الأمن القومي، وضغوط البيئة الإقليمية. ففي الوقت الذي لا تمتلك فيه دكار رفاهية الانتظار، إلا أنّ الخيارات المتاحة أمامها عملية وقابلة للتنفيذ إذا ما أُديرت بشكل متماسك.
وفي هذا الصدد، يمكن تقديم هذه الخيارات ضمن أربعة مسارات رئيسة، وهي:
أولًا: تثبيت الموقف الرسمي وتخفيف أثر الانقسام داخل القيادة
تقدّم الأزمة السياسية في السنغال تحديًا مباشرًا لانسجام الجهاز التنفيذي، وهو ما يضعف صورة الدولة أمام إيكواس وأمام أطراف الأزمة في بيساو. ولتفادي استمرار هذا الارتباك، يمكن تركيز الجهد على:
- صياغة موقف مشترك للرئاسة ورئاسة الوزراء: عبر تحديد “خط أحمر موحد” بشأن الانقلابات والتغييرات غير الدستورية، مع ترك مساحة للاختلاف السياسي الداخلي؛ لكن دون انعكاسه في الخطاب الخارجي.
- اعتماد قناة مؤسسية لإدارة ملفات الجوار: مثل مجلس أمن قومي مُحدّث يجمع الرئيس ورئيس الوزراء ووزارتي الخارجية والدفاع، لتجنب تناثر المواقف.
- تحييد الخلاف السياسي عن العلاقة مع بيساو: بحيث لا يتحول موقف الرئيس فاي أو رئيس وزرائه سونكو من إمبالو إلى مؤشر يُقرأ على أنه انحياز لمرشح أو تيار داخل غينيا بيساو.
هذه الخطوات، إذا اتبعتْ ستمنح دكار قدرة أكبر على إعادة ضبط صورتها الإقليمية في ظل استمرار الأزمة السياسية في السنغال داخليًا.
ثانيًا: تعزيز المقاربة الأمنية على الحدود ومنع ارتداد الأزمة على كازامانس
تؤكد الأزمة الحالية أنّ استقرار غينيا بيساو ليس ملفاً خارجيّاً محضاً؛ بل امتداد مباشر لأمن السنغال الداخلي. وعليه، يكون المسار الأمني أولوية، ويمكن تطويره عبر الإجراءات التالية:
- رفع جاهزية نقاط المراقبة على الحدود المشتركة: لمنع استغلال الفراغ السياسي في بيساو من قبل شبكات تهريب السلاح والمخدرات.
- مأسسة التعاون الأمني والاستخباراتي مع بيساو: بالتركيز على المعلومات حول تحركات الجماعات المسلحة ومسارات التجارة غير النظامية.
- تثبيت التهدئة في كازامانس: بتجديد التواصل مع الفاعلين المحليين وتقليل المخاوف من أن تؤثر الفوضى في بيساو على مسار خفض التوتر في الجنوب.
من دون هذا المسار، يمكن للأزمة السياسية في السنغال أن تكتسب أبعادًا أمنية تتجاوز الحسابات السياسية الحالية.
ثالثًا: إعادة تموضع دبلوماسي داخل إيكواس لتقليل التباين الإقليمي
أظهرت الأزمة أن تباين مواقف الدول الكبرى داخل إيكواس — خصوصًا السنغال ونيجيريا — يضعف قدرة المنظمة على التدخل في بيساو. ولحماية مكانتها الإقليمية، تحتاج دكار إلى:
- تنسيق موقف مرن مع نيجيريا: يقوم على الاعتراف بتعقيدات المشهد السياسي في بيساو دون صدام سردي مع أبوجا.
- دفع إيكواس نحو خارطة طريق انتقالية قصيرة وواضحة: تضمن تجنب ترسيخ سلطة المجلس العسكري، وتدفع نحو انتخابات جديدة خلال فترة زمنية محددة.
- إعادة التأكيد على دور السنغال كدولة ركيزة للاستقرار الإقليمي: رغم استمرار الأزمة السياسية في السنغال داخليًا، وذلك للحفاظ على ثقة العواصم الأخرى بقدرة دكار على قيادة المبادرات.
رابعًا: إدارة ملف إمبالو دون تحميل السنغال كلفة سياسية إضافية
إنّ خروج إمبالو من دكار إلى برازافيل وفّر للسنغال متنفساً داخليًّا مهمّاً؛ لكنه يتطلب استكمالًا حذرًا لضبط المسار. ويمكن تحقيق ذلك من خلال ما يلي:
- النّأْيِ عن اتخاذ أيّ دور يتجاوز الوساطة: بما يقلل من قراءة الأزمة على أنها اصطفاف سنغالي مع طرف سياسي داخل بيساو.
- دعم تسوية سياسية مؤسسية تقودها إيكواس بدل الدخول في ترتيبات ثنائية مع المجلس العسكري الجديد.
- تجنب إعادة فتح ملف إمبالو داخل السنغال: كي لا يتحول وجوده السابق في دكار إلى نقطة توتر إضافية في ظل استمرار الأزمة السياسية في السنغال بين فاي وسونكو.
يتضح من استعراض هذه الخيارات أنّ تجاوز الأزمة لا يرتبط بإجراء واحد محدد؛ بل يقوم على مقاربة متوازنة تجمع بين ضبط الساحة الداخلية، وتعزيز أمن الحدود، والحفاظ على دور فاعل داخل الإيكواس، وتفادي الانزلاق إلى اصطفافات سياسية في غينيا بيساو.
ومن شأن هذا المسار المتدرج أنْ يمنح السنغال مساحة أوسع للتعامل مع تداعيات الأزمة والحدّ من تأثيراتها على موقعها الإقليمي.
بلا شك، إذا تحركت هذه المسارات بالتوازي، يمكن أنْ تمنح دكار قدرة أكبر على الحدّ من تداعيات الأزمة وتثبيت مكانتها كركيزة للاستقرار في غرب إفريقيا.
الخاتمة
تُؤكّد الأزمة في غينيا بيساو، كما بدا واضحاً في مسارها السياسي والأمني، على أنّ محيط السنغال لم يعد يتحمّل هشاشة إضافية في لحظة تتسم بوجود الأزمة السياسية في السنغال نفسها داخل بنية السلطة التنفيذية.
فالتباين بين الرئيس باسيرو جوماي فاي ورئيس الوزراء عثمان سونكو لم يكن تفصيلاً ثانويًا؛ بل عاملًا أثَّر في طريقة قراءة دكار للحدث وفي حدود تحركها، سواء خلال استضافة الرئيس المخلوع إمبالو أو في مرحلة انتقاله لاحقًا إلى الكونغو.
وبقدر ما كشفت هذه الأزمة عن تعقيد المشهد داخل بيساو، فإنها سلّطت الضوء أيضًا على حاجة السنغال إلى مقاربة أكثر انسجامًا تُقلّل من انعكاس الخلافات الداخلية على الملفات الإقليمية الحساسة.
وفي المقابل، أثبتت التطورات الميدانية أنّ أمْن السنغال لا ينفصل عن واقع جارتها الجنوبية، وأنّ أيّ اضطراب سياسي في بيساو يمكن أنْ ينتقل بسهولة إلى الحدود المشتركة، سواء عبر نشاط شبكات التهريب أو عبر تأثيره على ديناميات كازامانس.
كما أوضحت التفاعلات داخل إيكواس أنّ المنظمة الإقليمية تعيش لحظة اختبار حقيقية، وأنّ قدرتها على ضبط الأزمات تتأثر مباشرة بتباين المواقف بين العواصم الكبرى، وعلى رأسها دكار وأبوجا.
وعليه، فإنّ الطريق أمام السنغال يتطلب مزيجًا من الحذر والفعالية، حذرًا في إدارة الخلاف الداخلي حتى لا يتحول إلى نقطة ضعف إقليمية، وفعالية في تثبيت الحضور داخل إيكواس ومنع الفراغ السياسي في غينيا بيساو من توليد موجات عدم استقرار جديدة.
وفي هذا السياق، يصبح اعتماد خطوات عملية، مثل: توحيد الخطاب الرسمي، وتعزيز أمن الحدود، وإسناد مسار الانتقال السياسي إلى إطار إقليمي منظم، عنصرًا أساسيًا للحفاظ على موقع السنغال كأحد أعمدة الاستقرار في غرب إفريقيا.
وبينما تبقى الأزمة مفتوحة على احتمالات متعددة، فإنّ التعامل مع غينيا بيساو لا ينفصل عن إدارة اللحظة السنغالية ذاتها، ولا عن قدرة دكار على المواءمة بين ضرورات الأمن القومي ومتطلبات المشهد السياسي الداخلي. فكل مسار تختاره السنغال اليوم سيكون له تأثير مباشر على وضعها الإقليمي في السنوات المقبلة، سواء في علاقتها مع إيكواس أو في ضبط المخاطر الممتدة من حدود كازامانس.
وفي الوقت نفسه، يُبرِز مسار لجوء الرئيس المخلوع عمر سيسوكو إمبالو إلى برازافيل بوصفه بُعدًا إضافيًّا يستحق المتابعة، إذْ يعيد فتح ملف علاقته بالرئيس الكونغولي دينيس ساسو نغيسو، والدور الذي يمكن أنْ يلعبه هذا الارتباط في ديناميات منطقة وسط إفريقيا، خصوصًا في ظل تحولات سياسية تشهدها المنطقة بين شبكات النفوذ التقليدية ومسارات إعادة تشكيل التحالفات.
وبذلك، لا تبقى الأزمة محصورة في غرب القارة فحسب؛ بل تمتد تداعياتها إلى مساحات إقليمية واسعة يتطلب قراءة متأنية في مقالات وتحليلات لاحقة.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

























