جوهانسبرغ – آراء ووجهات نظر |
قبل أسابيع، شهدت بورصة جوهانسبرغ (Johannesburg Stock Exchange) تقلباً حادًا حين أعلن حزب التحالف الديمقراطي (Democratic Alliance – DA)، الشريك في حكومة الوحدة، عن نيّته تقديم مشروع قانون الإدماج الاقتصادي للجميع (Economic Inclusion for All Bill).
لقد ارتفع المؤشر الرئيسي فور الإعلان عن المشروع، ثم هبط بالسرعة نفسها، في مشهدٍ يُجسّد اضطراب الثقة في تعريف العدالة الاقتصادية داخل جنوب إفريقيا.
إنّ القانون المقترح كان يسعى إلى إلغاء منظومة “التمكين الاقتصادي للسود”، التي وُضعتْ بعد نهاية الفصل العنصري لتوسيع المشاركة الاقتصادية للسود، واستبدالها بنظام يقوم على الحوافز الإنتاجية بدلاً من الأفضليات العرقية.
ويقول الحزب إنّ هذه السياسات، التي صُممت لتصحيح مظالم الماضي، تحولت مع الوقت إلى قنوات للفساد والريع والمحسوبية، بينما يرى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (African National Congress – ANC) أنها ركيزة أساسية في مشروع العدالة التاريخية، وأنّ إلغاءها يُعدّ تهديدٌ مباشرٌ لروح التحول الديمقراطي ذاته.
وهكذا، انقسم المشهد بين من يرى في القانون خطوةً نحو “الجدارة”، ومن يراه انتكاسةً عن الإنصاف. لكن وراء هذا الجدل القانوني تكمن معضلةٌ عميقة، وهي: كيف يمكن لجنوب إفريقيا أنْ توازن بين تصحيح الذاكرة وتحقيق الكفاءة الاقتصادية دون أنْ تُعيد إنتاج التفاوت بشكلٍ جديد؟
ومع هذا الجدل المحتدم، تستدعي الذاكرة تجربة أخرى في أقصى الشرق الآسيوي التي عايشتُها عن قرب خلال سنوات الدراسة في ماليزيا.
هناك تتجسد العدالة الاقتصادية في الجغرافيا ذاتها؛ فمنطقة “بوتراجايا (Putrajaya)“، العاصمة الإدارية ترمز إلى الدولة الملايوية وهي تُعيد هندسة إنصافها المؤسسي؛ وحي “دامانسارا (Damansara)” يمثل وجه السوق المنفتح على الكفاءة والمنافسة بقيادة الشركات الصينية؛ ومطقة “بريكفيلدز (Brickfields)“ تذكّر بأنّ فئات الهامش الهندية جزءٌ أصيل من النسيج الاقتصادي.
ليست هذه المناطق مجرد أحياء سكنية فحسب؛ بل خرائط اجتماعية تختصر فلسفة التنمية الماليزية، فهناك دولةٌ تُنصِف، وسوقٌ يُنتِج، ومجتمعٌ يتكامل حول معادلةٍ واضحة تجمع بين العدالة والفاعلية.
ومن هنا تنبثق المقارنة الجوهرية، فبينما نجحتْ ماليزيا في تحويل سياسات التمييز الإيجابي إلى رافعةٍ للنمو الصناعي، ما زالتْ جنوب إفريقيا تبحث عن توازنٍ بين الذاكرة والمستقبل، بين العدالة كقيمةٍ أخلاقية والاقتصاد كأداةٍ للبقاء.
ويقصد بـ “التمييز الإيجابي” تلك السياسات التي تعتمدها الحكومات لتفضيل فئاتٍ اجتماعيةٍ أو عِرقيةٍ كانت مُهمَّشة أو محرومة في الماضي، من خلال منحها فرصًا إضافية في التعليم، والتوظيف، والمشتريات العامة، والتمويل، مقارنةً بالفئات الأخرى التي استفادت سابقًا من امتيازاتٍ تاريخية.
ويهدف هذا التفضيل [المؤقت] إلى تحقيق مساواة فعلية في الفرص وردم الفجوات المتراكمة بين المجموعات داخل المجتمع، بحيث يتحول الإنصاف من مبدأٍ نظري إلى واقعٍ قابل للقياس والمشاركة.
وانطلاقًا من هذا التداخل بين التجربة والسياسة والذاكرة، يحاول هذا المقال تحليل هذه المفارقات من خلال الإجابة على ثلاثة محاور رئيسة، وهي:
- كيف تحوّل مشروع العدالة التاريخية إلى عبءٍ على كفاءة الاقتصاد حين تماهت السياسات الإصلاحية مع البيروقراطية والمصالح الضيقة؟
- ما الذي يمكن أن تقدمه التجربة الماليزية من دروسٍ في الموازنة بين التصحيح والفاعلية حين تحكمها مؤسسات منضبطة؟
- كيف يمكن لجنوب إفريقيا أن تعيد تعريف العدالة الاقتصادية خارج ثنائية اللون والانتماء، نحو مفهومٍ يجعل من المساواة والجدارة ركيزتين لبناء المستقبل؟
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا المقال لا يسعى إلى المفاضلة بين العدالة والاقتصاد بقدر ما يبحث عن صيغةٍ تُحوِّل العدالة من عبءٍ أخلاقي إلى طاقةٍ تنموية قابلة للقياس والمساءلة، حتى لا تظل جنوب إفريقيا رهينة ماضيها، ولا تُسقط حاضرها باسم الإنصاف.

جنوب إفريقيا … من تصحيح التاريخ إلى إرهاق الاقتصاد
بدأتْ جنوب إفريقيا، عقب الانتقال الديمقراطي عام 1994م، رحلةً طويلةً لتصحيح اختلالات الماضي الاقتصادي والاجتماعي، عبر سياساتٍ هدفت إلى تمكين الفئات التي عانت من الإقصاء المؤسسي خلال حقبة الفصل العنصري.
وقد تَجسّد ذلك أساساً في قانون التمكين الاقتصادي للسود (Black Economic Empowerment – BEE)، الذي أرسى مبدأ الأفضلية العِرقية في العقود الحكومية والتوظيف والمساهمات الملكية، باعتباره آليةً لتحقيق العدالة التاريخية وردّ الاعتبار الاقتصادي.
إلا أنّ هذا الإطار، الذي كان يُفترض أنْ يكون مؤقتًا وانتقاليًا، أخذ يتراكم ويتعقد مع الزمن، فتداخل مع منظومات مشترياتٍ عامة بيروقراطية، وأصبح مجالاً واسعًا للتأويل والتسييس.
ومِنْ هنا جاء مشروع قانون الإدماج الاقتصادي للجميع (Economic Inclusion for All Bill)، الذي قدّمه حزب التحالف الديمقراطي المعارض، سعيًا إلى إلغاء التفضيلات القائمة على الهوية العرقية، واستبدالها بنظامٍ قائمٍ على الحوافز التنموية والإنتاجية، مثل نقل المعرفة، وتوسيع القاعدة التشغيلية، وتحفيز الابتكار.
إذْ كان هذا القانون المقترح يهدف إلى خلق نموذجٍ جديد من العدالة الاقتصادية يربط الفرص بالكفاءة لا بالعرق، ويُدخل مبدأ “الجدارة القابلة للقياس” محلّ “الهوية المستحقة تاريخيًا”.
لكنّ الجدل الدائر حوله يعكس عمق المعضلة بين الإنصاف الاجتماعي وكفاءة الاقتصاد، وهي المعضلة التي يتناولها هذا المقال من منظورٍ توازنيّ نقديّ.
ففي مسار التحول الحالي، بات واضحًا أنّ العدالة الاقتصادية في جنوب إفريقيا ينبغي أنْ تبقى مبدأً موجهاً، لا شعاراً مرناً يُستخدم لتبرير الهدر والريعية. إذْ إنّ تصميم أدوات العدالة إذا انحرف عن الكفاءة والشفافية، تحوّل إلى احتكاكٍ مكلف، يُضعف قدرة الدولة والسوق معاً على خلق قيمةٍ مضافةٍ مستدامة.
فكلما اقتربتْ أدوات العدالة من منطق الأداء والشفافية، قلّ الإرهاق وزادت الاستدامة، وكلما ظلت أسيرة التعريفات الهويّاتية الفضفاضة، تضاعفتْ كلفتها على الدولة والمجتمع معاً.
إنّ أول مظاهر هذا الإرهاق يتمثل في تسييل العدالة داخل قنوات المشتريات العامة. فعندما تُبنى الأفضلية على أساسٍ هويّاتيٍ عام من دون مؤشرات أداء ملزمة أو آليات رقابة فعّالة، يزداد الحافز إلى الوساطة والرّيع، وتتحول العقود إلى شبكاتٍ تُغذّي نفسها من فرق الأسعار، لا من تحسّن الجودة أو الكفاءة.
وهكذا تتبدّل وظيفة التعاقد منْ أداةٍ للحصول على أفضل جودة بأفضل كلفة، إلى آلية توزيعٍ تُفضي إلى كلفةٍ أعلى وخدمةٍ أدنى. ثم شيئاً فشيئاً، تنتقل كلفة “التصحيح” إلى المستهلكين عبر أسعار الخدمات العامة أو ضعف جودتها، وإلى المالية العامة عبر اتساع فجوة القيمة بين ما تُنفقه الدولة وما تتلقاه فعليًا من سلعٍ وخدمات.
أما المظهر الثاني فيتجلّى في” تراجع إشارات الثقة للمستثمرين “. فالمستثمر، سواء كان محليا أو أجنبيا، يقرأ المشهد من زاوية اليقين التنظيمي وحياد القواعد، مقابل حجم المخاطرة والعائد.
وكلما تراكمتْ طبقات الامتثال غير المرتبطة بالإنتاجية، أو اتسعتْ مساحة الاستثناءات غير الواضحة، ارتفع متطلّب العائد للتعويض عن غياب اليقين. وتظهر النتيجة في شكل كبحٍ للاستثمار الخاص، وتفضيلٍ لرؤوس الأموال القريبة من الدولة أو المحمية سياسيّاً، وهو ما يضعف النمو في القطاعات المنتجة، ويُطيل أمد البطالة العالية التي تتجاوز 33%.
أمّا المظهر الثالث، فهو “تآكل قابلية القياس والمساءلة”. فلكي تُصان العدالة، لا بُدّ أنْ تُترجم إلى مؤشراتٍ كمية قابلة للفحص، مثل: كم وظيفة أُنشئت؟ ما نسبة المحتوى المحلي الحقيقي؟ وما أثر العقود على تدريب الشباب ونقل التكنولوجيا؟
فمن دون هذه المؤشرات، تتحوّل الأهداف السامية إلى سرديةٍ أخلاقيةٍ جميلة يصعب حوكمتها، وتصبح السياسات عرضةً لتجاذباتٍ سياسية لا تنتهي.
وعليه، فإنّ الرأي الذي يتخلّل هذا المحور هو: أنّ “جوهر الأزمة لا يكمن في مبدأ التصحيح ذاته؛ بل في آليات تطبيقه”. فكلما اقتربتْ أدوات العدالة من منطق الأداء والشفافية، قلّ الإرهاق وزادت الاستدامة، وكلما ظلت أسيرة التعريفات الهويّاتية الفضفاضة، تضاعفتْ كلفتها على الدولة والمجتمع معاً.
بين النموذج الماليزي وتجربة جنوب إفريقيا
تُقدّم التجربة الماليزية خلال عقود السياسة الاقتصادية الجديدة (New Economic Policy – NEP) وامتداداتها في تمكين فئة البوميبترا (Bumiputera)، أيْ الملايو والسكان الأصليين، نموذجاً مقارنًا غنيًّا لفهم كيف يمكن للتمييز التصحيحي أنْ ينجح، أو يتعثر تبعاً للبيئة المؤسسية والاقتصادية.
فقد انطلقتْ ماليزيا مطلع السبعينيات من واقعٍ اجتماعي منقسم بين الملايو الفقراء في الأرياف غالبا، والصينيين المسيطرين على التجارة، والهنود العاملين في المزارع والخدمات، بينما تركزت الثروة في أيدٍ محدودة من النخبة الاقتصادية الحضرية، خاصة العرق الصيني.
وفي مواجهة هذا الخلل، صاغت الحكومة الماليزية وقتها سياسة تمييزٍ إيجابي محددة الهدف؛ حيث كانت تهدف إلى خفض معدلات الفقر بين الملايو، ورفع حصتهم من الملكية الوطنية، وتوسيع فرص التعليم والتوظيف.
وعلى امتداد عقدين من الزمن، ترافق هذا البرنامج مع انضباطٍ مالي وسياسات تصنيعٍ موجهةٍ للتصدير، فكان للتفضيلات أثرٌ معادِلٌ لا معطِّل؛ إذْ رافقها نموٌّ قويّ واستثماراتٌ خارجية نقلت التكنولوجيا، ما سمح للاقتصاد بامتصاص كلفة الإصلاح عبر توسيع قاعدته الإنتاجية بدل تقليصها.
ومع ذلك، فإنّ نجاح ماليزيا في تطبيق هذه السياسة لا يعني بالضرورة أنها تصلح بالصيغة نفسها في جنوب إفريقيا؛ لأنّ الظروف مختلفة تماماً. فتجربتْ جنوب إفريقيا تختلف عن التجربة الماليزية في جوانب أساسية ثلاثة تؤثر بشكل كبير في نتائج أيّ سياسة مشابهة، وهي:
- البنية الديموغرافية والسياسية: في ماليزيا، ارتبطتْ سياسات الحماية بالفئة الملايوية التي تشكّل الأغلبية السكانية وصاحبة النفوذ السياسي، ما سهّل تثبيت القواعد، ومنحها شرعيةً ممتدة في الوعي العام. أمّا في جنوب إفريقيا، فرغم أنّ السكان السود هم أيضاً الأغلبية والأصل في البلاد، فإنّ الإرث العميق للفصل العنصري وما خلّفه من انقساماتٍ وآثار اجتماعية ورمزية جعل أيّ سياسة تفضيلٍ ــ مهما كانت نواياها ــ عرضةً للتسييس المستمر، والتأويل الأخلاقي الحادّ، وهو ما يفرض تصميماً أكثر دقة، وربطًا أوثق بالنتائج الاقتصادية لا بالهوية العِرقية وحدها.
- هيكل الاقتصاد ومحركات النمو: استفادتْ ماليزيا من موجة تصنيع آسيوية، وبنية تحتية كهربائية ولوجستية متقدمة نسبيّاً، وانفتاحٍ كبير على التجارة؛ فحملتْ قطاعات الإلكترونيات، والسيارات، والمنسوجات “تكلفة” التفضيل على كتف توسعها. أمّا في جنوب إفريقيا، فيعيق النموَّ اختناقاتٌ هيكلية في الطاقة والنقل والتعليم الفني، ما يجعل أيّ زيادةٍ في كلفة الامتثال، أو طول دورة التعاقد ترتطم مباشرةً بضعف القدرة الاستيعابية للنمو.
- الْحَوكَمة والمشتريات العمومية: لقد حقّقتْ ماليزيا، (على كل ما شاب التجربة من ريعٍ وشبكات مصالح)، درجاتٍ أعلى نسبيّاً من الانضباط الإجرائي والسرعة في الإسناد والتنفيذ، بينما ابتُليتْ جنوب إفريقيا لحِقَبٍ زمنية بسوء تخصيصٍ واسع في الشركات الحكومية، وتلاعُبٍ بالمناقصات، وتباطؤٍ إجرائي يُفقد السياسة نبل مقصدها. وتأسيساً على هذا، فإنّ اقتباس أدواتٍ “مفضِّلة” من نموذجٍ آسيوي بلا اشتراطٍ صارمٍ للحوكمة والشفافية يورّط الاقتصاد في كلفةٍ صافية من دون عائدٍ اجتماعي يبررها.
وتبعاً لما سبق، يمكننا تأكيد الرأي المتبنى في هذا المقال هنا في شكل مختلف، ألا وهو: أنّ التجارب المقارنة لا تُنقل مجردة؛ بل تُقرأ وتُمَحَّص، ثم تُخصّص.
فما يصح في ماليزيا حين تتوافر ديناميكا تصنيعٍ قويّة وحوكمة متماسكة، لا يصح تلقائيا في جنوب إفريقيا، ما لم تُعاد هندسة الأدوات على قاعدة الأداء القابل للقياس والزمن المحدد والرقابة العلنية على النتائج.

نحو مفهوم جديد للعدالة الاقتصادية
إذا كان الإشكال ليس في غاية العدالة؛ ولكنْ في وسيلتها، فإنّ الطريق إلى تسوية صراع الذاكرة والمستقبل يمرّ عبر إعادة تعريف العدالة الاقتصادية كعقد أداءٍ اجتماعي، لا كقائمة تفضيلاتٍ هويّاتية.
ويعني ذلك، أنّ التحول الحقيقي يكون في معرفة منْ “مَنْ أنت” وإلى “ماذا تُنجز”، ومِنَ الوصف إلى الأثر، ومن النيّة إلى النتيجة. ويمكن ترجمة هذا التحول في أربع حزم متناسقة، وهي:
- أولًا: استبدال التفضيل الوصفي بالتعاقد القائم على مؤشرات أثر. فتُصاغ وثائق المناقصات بحيث تمنح أفضليةٍ محسوبة للشركات – أيًا كانت ملكيتها – التي تلتزم تعاقديًا بمخرجات قابلة للقياس، مثل: عدد الوظائف للشباب والنساء، ساعات التدريب المعتمدة، نسب المحتوى المحلي الحقيقي، نقل المعرفة إلى الموردين الصغار، وخفض البصمة الكربونية. وتُراجَع هذه الالتزامات دوريًا، وتُصرف دفعات العقد على أساس تحقيقها، وتُفرض غراماتُ أداء عند الإخلال. هكذا تنتقل العدالة من خانة الانتماء إلى خانة القيمة المضافة للمجتمع.
- ثانيًا: استهدافٌ اجتماعي ومناطقي ذكي بدل التوزيع الأفقي. هذا يتطلب توجيه الحوافز إلى الدوائر الأشد تهميشًا مكانيًا واجتماعيّاً (البلدات الطرفية، اقتصاد الأحياء، سلاسل القيمة الريفية)، مع تركيز على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ويُربط كل برنامجٍ بجدولٍ زمني واضح (Sunset Clauses) يُنهي التفضيل تدريجيًا مع تحقق مؤشرات الإدماج، حتى لا تتحول السياسة الانتقالية إلى نظام دائم للريع.
- ثالثًا: حوكمة رقمية للمشتريات وإفصاح ملكية المستفيد النهائي. لا عدالة بلا شفافية، ومن ثمّ، تُلزم العقود باستخدام منصات إسنادٍ إلكترونية مفتوحة، وتُنشر بيانات المناقصات، ومؤشرات الأداء، وأسماء المالكين الفعليين للشركات (Beneficial Ownership) منعاً لاختطاف العقود عبر واجهاتٍ صورية. كما يُعزَّز دور أجهزة الرقابة (المراجع العام، وهيئات المنافسة) بأدوات تدقيقٍ لحظيّة وتحليلاتٍ قائمة على البيانات.
- رابعًا: إعادة تموضع دور الدولة من موزّع امتيازات إلى ميسّر أسواق. ينبغي للحكومة أنْ ُتركّز على تصحيح إخفاقات السوق (التعليم التقني، التمويل طويل الأجل، البنية التحتية اللوجستية والطاقة)، وتقلّص تدخلها التفضيلي المباشر في الإسناد إلا حيث تقتضي الضرورة وبأدواتٍ شفافة. ومع هذا التحول، ستصبح العدالة الاقتصادية وظيفةً تعاقدية مشتركة، فالدولة تحدد الأهداف وتراقب، والسوق تُنجز وتُحاسب، والمجتمع المدني يُدقق ويُقيّم.
بهذه الحِزَم، يتبلور المفهوم الجديد الذي يتسق مع الرأي المتبنى سلفا في هذا المقال،” عدالةٌ تؤطرها الكفاءة لا تُقصي ذاكرة الماضي؛ لكنها لا تُحبس فيها، لكنها عدالةٌ تتحول إلى معايير قابلة للقياس والمساءلة، فتغدو جزءًا من منظومة خلق الثروة لا خصمًا لها.
إنّ نجاح هذا التحول لنْ يقاس بنبرة الخطاب؛ بل بقدرة السياسات على تقليل البطالة، وتوسيع القاعدة الإنتاجية، ورفع إنتاجية رأس المال البشري.
وحين تتقدم هذه المؤشرات معاً، يصبح الإنصاف ليس وعدًا أخلاقياً فحسب، بل حقيقةً اقتصادية تَظهر في الأجور، وفي جودة الخدمات العامة، وفي ثقة المستثمرين التي تعود فتُنعش دورة النمو.
الخلاصة
تبدو “العدالة الاقتصادية في جنوب إفريقيا” اليوم وكأنها تسير على خيطٍ رفيعِ يمتدّ بين ذاكرةٍ مثقلةٍ بالمظلومية، ومستقبلٍ يطالب بالكفاءة والإصلاح.
لقد أُريد لسياسات التمكين أنْ تكون جسراً للإنصاف، فإذا بها تتحول أحيانًا إلى جدارٍ يحجب الرؤية ويبطئ الخطى. ومع أنّ منطق “تصحيح التاريخ” يظل ضرورة أخلاقية لا يمكن القفز عليها، فإنّ الإصرار على أدواتٍ لم تَعُدْ تنتج سوى التفاوت والبيروقراطية يهدد بتحويل العدالة ذاتها إلى عبءٍ على التنمية.
فالتجربة الماليزية التي شكلتْ مرجعاً لكثير من الاقتصادات النامية، تُظهر أنّ التمييز الإيجابي يمكن أنْ ينجح حين يقترن بانضباطٍ مؤسسي، وبقدرةٍ على التقييم والإنهاء في الوقت المناسب؛ لكنه يتحول إلى ريعٍ دائم حين يفتقر إلى قياس الأثر.
وهذا هو الدرس الذي ينبغي لجنوب إفريقيا أنْ تتعلمه وهي تعيد تعريف عقدها الاجتماعي الجديد، العدالة لا تُقاس بالنوايا؛ بل بالنتائج؛ ولا تُترجم بالهوية؛ بل بالكفاءة.
إنّ مستقبل جنوب إفريقيا لن يُبنى بنفي ماضيها، ولا بالعيش أسيرة له؛ بل بتجاوز الثنائية التي ظلتْ تحكم معادلتها الاقتصادية منذ عقود. فالعدالة الحقيقية هي التي تردّ الاعتبار للذاكرة من دون أنْ تقيّد آفاقها، وتفتح الباب للمستقبل دون أنْ تنكر الجرح.
ولعل الرهان الأكبر أمام البلاد اليوم، أنْ تجعل من سياساتها الاقتصادية تجسيداً لهذه المعادلة الدقيقة، التي تتمثل في إنصافٍ لا يولّد امتيازًا جديدًا، ومساواةٍ لا تفرغ العدالة من معناها، واقتصادٍ يخلق الثروة بعدالةٍ كما يوزّعها بكفاءة.
فحين تصل جنوب إفريقيا إلى تلك النقطة؛ حيث تُصبح العدالة محركاً للنمو لا مبررًا لركوده، تكون قد حررتْ ذاكرتها من عبْء الماضي، وأطلقتْ طاقتها نحو مستقبلٍ أكثر توازنًا، لا يُقاس بلونٍ أو طبقةٍ؛ بل بما يقدّمه أبناؤها من عملٍ وإنتاجٍ وإبداع.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.









