لم يكن فجر السادس والعشرين من نوفمبر حدثًا عابرًا في غينيا بيساو؛ بل لحظةً تجمّعت عندها طبقات طويلة من الاحتقان السياسي، وهشاشة الدولة، وانكسارات المسار الديمقراطي.
ففي بلد اعتاد توتّر الانتقال بين السلطة والمعارضة، تداخل المشهد الانتخابي المضطرب مع تاريخ من الصراعات العسكرية وشبكات النفوذ؛ لينفجر فجأة في صورة انقلاب أربك الداخل، وأعاد إلى الواجهة أسئلة قديمة حول من يمتلك الشرعية، ومن يحدد قواعد اللعبة السياسية في إحدى أكثر دول غرب إفريقيا هشاشة وتقلباً.
ومع الساعات الأولى التي تلت إطلاق النار حول مؤسسات الدولة في بيساو، بدا واضحاً أنّ ما جرى لم يكن مجرد انزلاق انتخابي؛ بل لحظة اختبار جديدة أعادت تعريف حدود القوة داخل مؤسسات الدولة، ودفعت الجيش إلى الواجهة مرة أخرى، وإن كانت بصيغة غير تقليدية؛ انقلابٌ حصل دون أنْ يُعزل الرئيس فوراً عن العالم؛ بل ظل قادراً على التواصل، في مشهد يِشي بانقسام داخلي أكثر مما يوحي بعملية استحواذ محكمة.
وقد ازدادت ملامح هذا الانقسام وضوحًا في اليوم التالي، حين أعلنت القيادة العسكرية العليا تعيين الفريق هورتا إنتا-أ نا مان (Horta N’Ta-A Na Man) رئيساً للمرحلة الانتقالية لمدة عام، في خطوة عكست محاولة تثبيت ميزان قوى جديد داخل المؤسسة العسكرية، وتحويل اللحظة الانقلابية من حالة اضطراب إلى بنية حكم انتقالية قيد التشكل.”
لقد تداخلت في تلك اللحظة عناصر الأزمة كلها تقريبا؛ صراع على نتائج انتخابات متنازع عليها، وخلافات حادة حول نهاية الولاية الدستورية، وتراكمات طويلة من النزاعات بين الرئاسة والمعارضة، وتاريخ ممتد من الانقلابات شكّل جزءاً من هوية النظام السياسي نفسه.
ومع كل ذلك، يظل الحدث الأخير أكبر من كونه مواجهة سياسية بين طرفين؛ إنّه مرآة لعمق الأزمة البنيوية التي تمسك بخناق الدولة منذ عقود؛ حيث تتقاطع السياسة بالاقتصاد، والجيش بشبكات النفوذ غير الرسمي، والديمقراطية بهشاشة المؤسسات.
وبناء عليه، سنحاول في هذا المقال قراءة لحظة الانقلاب الأخيرة في سياقها الواسع، وفهم كيف وصلت غينيا بيساو إلى هذا المنعطف، وما الذي تكشفه هذه الأزمة عن طبيعة انتقال السلطة وانهيار المسار الديمقراطي، وما السيناريوهات المحتملة في الأيام المقبلة لدولة تقف كل مرة على حافة جديدة.
المشهد العام لانقلاب 26 نوفمبر 2025
مع اقتراب لجنة الانتخابات منْ إعلان النتائج الأولية لاقتراع 23 نوفمبر، كانت بيساو تعيش إحدى أكثر لحظاتها توتراً منذ سنوات. كانت البلاد تقف على حافة صدام انتخابي مكشوف؛ كلٌّ من الرئيس المنتهية ولايته، عمر سيسوكو إمبالو (Umaro Sissoco Embaló)، والمرشّح المعارض فرناندو دياس (Fernando Dias)، أعلن فوزه قبل اكتمال الفرز، في إشارة مبكرة إلى انهيار الثقة في المسار المؤسسي ذاته.
فقد حمل فجر السادس والعشرين من نوفمبر إشارات واضحة؛ حيث انتشر إطلاق النار في محيط القصر الرئاسي ولجنة الانتخابات ومقار سيادية أخرى، فيما شوهدت وحدات من الجيش وهي تتخذ مواقع استراتيجية داخل العاصمة. إذْ لم تتضح طبيعة الاشتباكات على الفور؛ لكن ما بدا جليًّا هو أنّ النزاع تجاوز الخلافات الانتخابية، ليدخل طوراً أمنياً يعكس صراعا داخل مؤسسات القوى نفسها.
وبعد ساعات قليلة، ظهر ضباط بزيّهم العسكري على شاشة التلفزيون الرسمي ليعلنوا “استلام السلطة” وتعليق العملية الانتخابية، مع فرض حظر تجول وإغلاق الحدود.
الرجل الذي كان قبل يوم واحد رئيساً على وشك التجديد لنفسه، بات الآن طرفاً معلَّق المصير في مشهد مضطرب. ومع ذلك، ظل قادراً على استخدام هاتفه للتواصل مع الخارج، وهي إشارة مبكرة إلى أنّ الانقلاب، رغم اكتماله من حيث السيطرة الميدانية، لم يكن محكم البناء من حيث هندسة القوة الداخلية.
وكان ذلك الإعلان هو اللحظة التي تحولت فيها غينيا بيساو من أزمة انتخابية إلى أزمة سلطة؛ إذْ لم يعد السؤال مرتبطاً بمن حصل على الأصوات بقدر بمن يملك القرار داخل الدولة؛ هل الجيش الذي أعلن نفسه وصيًّا على “استعادة النظام”، أم الطبقة السياسية التي انهارت قدرتها على إدارة انتقال ديمقراطي سلس؟
ومع حلول يوم 27 نوفمبر، مضت القيادة العسكرية خطوة أبعد حين أعلنت تعيين الفريق هورتا إنتا-أ نا مان (Horta N’Ta-A Na Man) رئيساً للمرحلة الانتقالية لمدة عام، في مؤشر على انتقال الانقلاب من حالة فوضى ميدانية إلى بنية سلطوية أكثر تماسكًا، يقودها جناح محدد داخل المؤسسة العسكرية.
وبهذه الصورة، دخلتْ غينيا بيساو مرحلة جديدة، تتداخل فيها الضبابية الأمنية مع اضطراب الشرعية، وترتسم فيها ملامح فصل آخر من تاريخ دولة هشّة اعتادت أن تتغير معادلاتها بين ليلة وضحاها.
معضلة انتقال السلطة في غينيا بيساو: جذور الأزمة وإرث الانقلابات
تبدو الأزمة التي انفجرتْ في 26 نوفمبر 2025م امتدادا لمسار طويل تراكمت خلاله اختلالات الشرعية، وتقاطعت فيه التوترات السياسية مع تاريخ بالغ الاضطراب من تدخلات الجيش في الحكم.
فليست الأزمة وليدة لحظة انتخابية محددة؛ بل هي حصيلة بنية سياسية هشّة، ظلّت عاجزة عن إنتاج انتقالٍ مستقر للسلطة، في ظل إرث انقلابي رسّخ دور المؤسسة العسكرية كحَكَم فوق الدستور حين تتصاعد الخلافات. فمن هذه الزاوية، يصبح فهم جذور الأزمة وإرث الانقلابات مدخلاً أساسياً لقراءة ما جرى في غينيا بيساو.
أ) جذور الأزمات السياسية
شهدت السنوات الأخيرة تشكّل أزمة دستورية عميقة حول موعد نهاية ولاية الرئيس عمر سيسوكو إمبالو. ففي الوقت الذي أصرّ فيه الرئيس على أنّ ولايته تمتد حتى سبتمبر 2025م، أكدت المعارضة المدعومة بحكم المحكمة العليا على أنها تنتهي في فبراير من العام ذاته.
قد كشف هذا التباين الظاهري في تفسير النص الدستوري عنْ أزمة دستورية واضحة؛ حيث غياب التوافق على قواعد اللعبة السياسية، وتراجع قدرة المؤسسات على الفصل بين المتنافسين.
ومع تسارع الخلافات، دخلت البلاد في مرحلة إعادة هندسة سياسية واضحة. فقد أقدم إمبالو على إقالة رئيس الوزراء “روي دوارتي دي باروس”، وعيّن “براميا كامارا” في خطوة فُسّرت باعتبارها محاولة لتهيئة المشهد الانتخابي بما يخدم بقاءه. وفي الوقت ذاته، شكّل تحالفاً سياسيًّا واسعاً يضم 16 حزباً تحت مظلة “المنصة الجمهورية نو كومبو غيين”، في محاولة لإعادة بناء شرعية موازية للشرعية الدستورية المتنازع عليها.
وصاحَب ذلك مناخ ضاغط على الحريات، تمثل في تقييد عمل وسائل إعلام محلية ودولية، واعتقالات طالت صحفيين، وانتقادات من أطراف إقليمية مثل الإيكواس، التي فشلت وساطتها في مارس 2025م بعد تهديد الرئيس بطرد البعثة.
ومع استبعاد تحالف (Terra Ranka – PAI) ومرشحه دومينغوس سيمويس بيريرا من السباق، بدا أنّ العملية الانتخابية فقدت صفتها التنافسية، وتحوّلت إلى ساحة لصراع على الشرعية أكثر منها وسيلة لحسم الخلاف عبر صناديق الاقتراع.
ب) الإرث الانقلابي وهشاشة الدولة
لم تكن الأزمة السياسية وحدها كافية لإشعال انفجار 26 نوفمبر؛ بل وجد الصراع بيئة خصبة في إرث انقلابي ثقيل طبع الدولة منذ استقلالها عام 1974م.
فقد شهدت غينيا بيساو أربع انقلابات ناجحة، وأكثر من عشر محاولات فاشلة، ما جعل الجيش طرفًا دائمًا في تحديد مآلات الحكم. فرسّخ هذا التاريخ قناعة ضمنية بأنّ حسم الأزمات الكبرى قد يتم بالقوة حين تفشل السياسة، وهو ما أضعف المؤسسات المدنية، وأجهض بناء الثقة في آليات التداول السلمي.
وتجلّت هشاشة الدولة في بنية مؤسسية شديدة الضعف؛ برلمان متنازعَ على شرعيته، حكومات لا تستمر لأشهر، وأجهزة أمنية تتنافس أكثر مما تتكامل. كما شهدت البلاد في عامي 2022 و2023 مواجهات داخل وحدات الأمن والحرس الوطني، ما كشف عن انقسام كبير داخل المؤسسة العسكرية نفسها. ومع اقتراب انتخابات 2025م، أصبح الجيش، بأجنحته المتصارعة، فاعلاً غير قابل للتوقع، يتحرك عند كل فراغ سياسي لإعادة ضبط التوازنات.
هذا الإرث الانقلابي لا يفسر سهولة انزلاق البلاد نحو انقلاب جديد فقط؛ بل يوضح الطابع غير التقليدي لانقلاب 26 نوفمبر تحديدًا.
فتمكُّن الرئيس المخلوع من التواصل مع الخارج واستخدام هاتفه لساعات بعد سيطرة الجيش، يشير إلى انعدام مركزية القرار داخل المؤسسة العسكرية، وإلى أنّ الانقلاب لم يكن فعلاً موحداً بقدر ما كان نتيجة صراع داخلي بين مراكز قوة مختلفة.
بهذه الصورة، تتقاطع جذور الأزمة السياسية مع إرث انقلابات لم يُحسم؛ لتنتج لحظة انفجار كانت متوقعة في بلد لم ينجح قط في تثبيت قواعد انتقال السلطة منذ نصف قرن (50 عاما).
الفاعلون الرئيسيون في انقلاب 26 فبراير 2025
في صميم هذا التحول المفاجئ تقف مجموعة من الفاعلين الذين تتشابك أدوارهم في صناعة لحظة الانقلاب، بعضهم في مركز منظومة السلطة، وبعضهم على هامشها، وبعضهم خارج الحدود؛ لكنه يؤثر في مسارها بصورة غير مباشرة.
في مركز الصورة يأتي الرئيس المخلوع عمر سيسوكو إمبالو، الذي دخل الانتخابات وهو محاط بجدل طويل حول نهاية ولايته، وبإرث من الصدامات مع البرلمان والمعارضة وحلِّ المؤسسات. خلال الساعات الأولى من 26 نوفمبر، قدّم نفسه لوسائل إعلام فرنسية ودولية بصفته رئيساً مُعتقَلاً في مكتبه إثر “انقلاب عسكري” قاده رئيس الأركان، ثم نُقل لاحقاً إلى منشأة عسكرية، وفق ما أوردته وكالات الأنباء الدولية.
لكن استمرار قدرته على استخدام الهاتف والتواصل مع الخارج أعطى انطباعاً بأنّ جزءاً من الأجهزة الأمنية لم يكن منخرطاً بالكامل في العملية، أو لم يَحسم موقفه بشكل نهائي، وهو ما يعكس تداخلاً بين موقع الرئاسة وشبكات النفوذ داخل المؤسسة العسكرية نفسها.[1]
اتهمت جبهة شعبية مدنية تُعرَف بـ “الجبهة الشعبية (Popular Front)” الرئيسَ والجيشَ معاً بتدبير انقلاب مُصطنَع؛ لتعطيل نتائج الانتخابات والبقاء في السلطة، في تعبير واضح عن أزمة ثقة عميقة في كلٍّ من النخبة المدنية والعسكرية على حدٍّ سواء.
وفي الجهة المقابلة يقف المرشَّح المنافس فرناندو دياس، المدعوم من الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر (PAIGC) ودوائر معارضة واسعة، ومعه شخصيات محورية، مثل: دومينغوس سيمويس بيريرا (Domingos Simões Pereira) الذي قاد تحالف Terra Ranka – PAI في الاستحقاقات السابقة.
هذا المعسكر، لم يكتفِ بالتشكيك في نزاهة المسار الانتخابي فقط؛ بل ذهب بعد الانقلاب إلى اتهام إمبالو بمحاولة “صناعة انقلاب” نفسه أو استثماره لتأجيل إعلان النتائج، بعد تسرب انطباع داخلي وخارجي بأنه خسر الجولة الأولى. هنا يظهر الفاعل المعارض ليس كضحية لإقصاء انتخابي فقط؛ ولكنْ كطرف يحاول إعادة تعريف ما جرى، هل هو انقلاب حقيقي أطاح برئيس متسلّط، أم عملية هجينة شارك فيها جزء من النظام نفسه لتفادي اعترافٍ بهزيمة انتخابية؟[2]
إلى جانب هذين القطبين، برز الجيش بوصفه الفاعل الأكثر حسماً في لحظة التحول، وصاب النصيب الأكبر. فالضباط الذين ظهروا على التلفزيون الحكومي أعلنوا تشكيل القيادة العسكرية العليا لاستعادة النظام والأمن العام، وتحدّث باسمهم العميد دينيس إنكانها (Dinis Incanha)، الذي كان يشغل موقعاً حساساً في المكتب العسكري للرئاسة قبل أنْ يتحول إلى واجهة الانقلاب.
وتزامن ذلك مع اعتقال رئيس الأركان الجنرال بياغي نا نطان (Biagué Na Ntan) ونائبه الجنرال مامادو تورّي ووزير الداخلية بوتشي كاندي، ما يعني أنّ الانقلاب لم يأتِ من المؤسسة العسكرية ككتلة واحدة؛ بل من جناح داخلها أطاح بجناح آخر كان أقرب إلى الرئيس أو جزء من دوائره.
وجاء إعلان القيادة العسكرية العليا، في اليوم التالي (27 نوفمبر 2025م)، بتنصيب الفريق هورتا إنتا-أ نا مان (Horta N’Ta-A Na Man) رئيساً للمرحلة الانتقالية لمدة عام ليُظهر بوضوح الجناح المنتصر داخل المؤسسة العسكرية. فهذا التعيين لم يكن مجرد إجراء تنظيمي، بل إشارة إلى إعادة تركيب هرم القوة داخل الجيش، وتثبيت قيادة جديدة تسعى إلى منح الانقلاب بنية حكم انتقالية، وتحويل السيطرة الميدانية إلى سلطة سياسية معلنة.
هذا النمط من انقلاب داخل النظام، لا يعيد ترتيب هرم السلطة فقط؛ بل يزيد أيضاً هشاشة الدولة حين تتحول مواقع الأمن العليا إلى ساحة تصفية حسابات متبادلة.[3]
غير أنّ المشهد لا يكتمل من دون الفاعلين المجتمعيين والإقليميين. فداخل البلد، اتهمت جبهة شعبية مدنية تُعرَف بـ “الجبهة الشعبية (Popular Front)” الرئيسَ والجيشَ معاً بتدبير انقلاب مُصطنَع؛ لتعطيل نتائج الانتخابات والبقاء في السلطة، في تعبير واضح عن أزمة ثقة عميقة في كلٍّ من النخبة المدنية والعسكرية على حدٍّ سواء.
أمّا على المستوى الإقليمي والدولي، فتحركت بعثات المراقبة التابعة للإيكواس والاتحاد الإفريقي، ومعها شخصيات بارزة مثل غودلاك جوناثان، وفيليبي نيوسي، للتنديد بالاستيلاء غير الدستوري على السلطة، والدعوة إلى استكمال العملية الانتخابية والعودة إلى النظام الدستوري.
كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش جميع الأطراف إلى ضبط النفس واحترام سيادة القانون، في حين أصدرت البرتغال، بوصفها القوة الاستعمارية السابقة وصاحبة نفوذ تاريخي في البلاد، بياناً حثت فيه على وقف العنف واستئناف فرز الأصوات.
في واقع الأمر، لا تغيّر هذه المواقف موازين القوة على الأرض فوراً؛ لكنها تضع الانقلاب في مواجهة معايير دولية وإقليمية تجعل هامش المناورة أضيق، وتربط مستقبل السلطة في بيساو بقدرة الفاعلين المحليين على إنتاج تسوية لا تُقصي المجتمع الدولي ولا تُغرق البلد في عزلة إضافية إن حسن استثمارها.[4]
وفي المحصلة، تتداخل في انقلاب 26 نوفمبر ثلاثة مستويات من الفاعلين، هي: رئاسة محاطة بشبكات نفوذ متهمة بتليين قواعد اللعبة لصالحها، ومعارضة ترى في الانقلاب استكمالاً لمسار إقصائها من السياسة، ومؤسسة عسكرية منقسمة تحاول إعادة رسم خريطة السلطة، فوقها جميعًا سقف من الضغط الإقليمي والدولي يقبل هامشًا من الأمر الواقع لكنه لا يمنحه شرعية مجانية.
هذا التداخل، هو ما يجعل الانقلاب الحالي ليس مجرد استبدال رئيس بآخر؛ بل إعادة توزيع واسعة لمراكز القوة داخل دولة هشّة أصلًا.
الاقتصاد السياسي للأزمة
يشكّل الاقتصاد أحد العناصر المركزية لفهم المشهد السياسي في غينيا بيساو، إذْ تتقاطع الأزمة الحالية مع بنية اقتصادية هشة تعاني منذ عقود من اختلالات جوهرية. ويعود ذلك إلى محدودية الاقتصاد الرسمي من جهة، وإلى توسع اقتصاد الظل من جهة أخرى، بما في ذلك شبكات التهريب والمخدرات التي اكتسبت نفوذًا متعدد المستويات داخل أجهزة الدولة.
ويعتمد الاقتصاد الرسمي للبلاد على قطاع زراعي محدود، أبرزُه محصول الكاجو الذي يشكّل العمود الفقري للصادرات. ومع ضعف البنية الإنتاجية، وغياب تنوع اقتصادي حقيقي، تعاني المالية العامة من عجز مزمن وارتباط كبير بالمساعدات الدولية، خاصة من الاتحاد الأوروبي والهيئات متعددة الأطراف. يجعل هذا الضعفُ الدولةَ عاجزة عن بناء مؤسسات قادرة على إدارة المنافسة السياسية أو ضبط مسارات السلطة.
وفي المقابل، توسّع اقتصاد الظلّ ليصبح هو الإطار الأكثر تأثيرًا في العلاقات بين النخب السياسية والعسكرية. ويقصد باقتصاد الظل مجموع الأنشطة الاقتصادية التي تجري خارج الرقابة الرسمية للدولة، ولا تُسجَّل في النظام الضريبي أو القانوني، رغم أنها تشكّل جزءًا مؤثرًا من الحركة الاقتصادية الفعلية.
فمنذ مطلع الألفية، تحولتْ سواحل البلاد إلى ممر أساسي لشبكات تهريب الكوكايين القادمة من أميركا اللاتينية إلى أوروبا. فرسّخ هذا النشاط غير المشروع ارتباطات معقدة بين ضباط في المؤسسة العسكرية ومسؤولين مدنيين، إذْ يتحكم بعضهم في نقاط العبور والمرافئ المعزولة والجزر الصغيرة المنتشرة على الساحل، ما أتاح لهم موارد مالية تفوق ميزانية الدولة نفسها في بعض الأعوام بحسب تقديرات أممية.
إنّ وجود هذا الاقتصاد الموازي، أعاد تشكيل معنى السلطة في غينيا بيساو، فالموقع السياسي لم يعد يعكس القدرة على إدارة شؤون الدولة فقط؛ بل أصبح مدخلاً للوصول إلى شبكات الريع غير الرسمي. كما نشأتْ في محيط هذا النشاط مجموعات نافذة في الأمن والجمارك، جعلت السيطرة على هذه المؤسسات محورًا أساسيًّا في الصراع السياسي، خصوصا خلال فترات الانتخابات أو التغييرات الحكومية.
ومع اقتراب استحقاق انتخابات نوفمبر، كانت البلاد تشهد مؤشرات واضحة على توتر داخل أجهزة الدولة حول مواقع النفوذ في الحرس الرئاسي وقيادة الجيش والجمارك. واتُهمتْ أطراف قريبة من السلطة بمحاولة إعادة تشكيل هذه الأجهزة لضمان ولاء أطراف محددة، في حين رأت مجموعات أخرى في هذه الخطوات تهديدًا مباشرًا لمصالح اقتصادية مترسخة.
وعندما انفجرت الأزمة، ظهر ذلك الانقسام بوضوح، مما يشير إلى وجود صراع بين شبكات نفوذ داخل الدولة أكثر من كونه صراعًا تقليديًا بين سلطة مدنية وجيش موحّد.
فضلا عن ذلك، تقع غينيا بيساو ضمن شبكة إقليمية واسعة للتهريب، تمتد من دول الساحل جنوباً إلى غينيا وسيراليون غرباً. حيث تعمل هذه الشبكات باستمرار على استغلال ضعف الرقابة الحدودية، وتستفيد من درجة عالية من التداخل بين الفاعلين المحليين والمهربين الإقليميين.
فوجود هذا الامتداد الإقليمي يزيد من حساسية المشهد الداخلي، لأنّ أيّ تغيير سياسي مفاجئ قد يؤثر في توازنات غير رسمية تتجاوز حدود البلاد.
وفي ضوء هذه المعطيات، تَظهر الأزمة الراهنة بوصفها امتدادًا لبنية اقتصادية هشة، تتداخل فيها مصالح رسمية وغير رسمية. ومع استمرار قوة اقتصاد الظل مقارنة بالاقتصاد الرسمي، يصعب تثبيت قواعد انتقال سياسي سلمي، لأنّ الخسارة في الانتخابات أو في موازين السلطة لا تعني خسارة موقع سياسي فحسب؛ بل فقدان موارد مالية واسعة، ونفوذ شبه مستقل داخل مؤسسات الدولة. وهذا ما يجعل كل أزمة سياسية في غينيا بيساو قابلة للتحول إلى مواجهة مفتوحة، وكل انتقال للسلطة عملية محفوفة بالمخاطر.
السيناريوهات المحتملة للمسار السياسي
تُظهر المعطيات المتوفرة أنّ مسار الأزمة في غينيا بيساو يتجه نحو ثلاثة سيناريوهات رئيسة، ويختلف ترجيح كل منها وفق توازن القوى داخل المؤسسة العسكرية، ومستوى الانقسام السياسي، وحجم الضغوط الخارجية، خاصة من منظمة إيكواس والاتحاد الأوروبي والبرتغال.
ويكتسب تحليل السيناريوهات أهمية إضافية بعد إعلان القيادة العسكرية تعيين الفريق هورتا إنتا-أ نا مان (Horta N’Ta-A Na Man) رئيسا للمرحلة الانتقالية، مما يوحي برغبة واضحة في تحويل السيطرة العسكرية إلى سلطة منظمة، وهو ما يرفع احتمال ترسيخ الحكم العسكري وتراجع فرص العودة السريعة إلى المسار الدستوري. فيما يلي، أبرز السيناريوهات المحتملة:
سيناريو تثبيت أمر الواقع (العسكري)
يمثل هذا السيناريو المسار الأكثر مباشرة إذا تمكنت القيادة العسكرية من الحفاظ على تماسكها الداخلي، وضبطت مواقع القوة في أجهزة الأمن والحدود، ونجحت في تقديم خطاب يربط وجودها بـ “استعادة النظام”. ويزداد هذا الاحتمال إذا استمرت الانقسامات السياسية، ولم تنجح المعارضة في تشكيل موقف موحد.
كما يمكن أنْ تستفيد بعض الأجنحة داخل الجيش من استمرار المرحلة الانتقالية لإعادة ترتيب شبكات المصالح المرتبطة باقتصاد الظل وملفات التهريب، ما يجعل الخروج السريع من السلطة خيارًا غير مفضل بالنسبة لها.
سيناريو انتقال تفاوضي بضغط إقليمي ودولي
يرجح هذا المسار إذا نجحت الإيكواس والاتحاد الإفريقي والبرتغال، مدعومين من الاتحاد الأوروبي، في خلق كتلة ضغط موحدة تُجبر الجيش على القبول بخارطة طريق انتقالية قصيرة. ويستند هذا السيناريو إلى حساسية غينيا بيساو في مسارات الهجرة غير النظامية والتهريب، ما يجعل الاستقرار السياسي أولوية أمنية أوروبية.
وقد يتضمن هذا الاتجاه تشكيل حكومة انتقالية مدنية أو مجلس مختلط يشرف على العملية الانتخابية. الشرط المهم لنجاح هذا السيناريو هو وجود تماسك معقول داخل الجيش يسمح له بالتفاوض، وقدرة المعارضة على تجاوز منافساتها الداخلية.
سيناريو جمود مضطرب طويل الأمد
هذا هو السيناريو الأكثر تكلفة على المدى المتوسط، لكنه شائع في الدول ذات البنية المؤسسية الضعيفة. وقد يتحقق إذا فشل العسكريون في فرض سلطة مكتملة، ولم تتمكن المعارضة من صياغة بديل موحّد، وافتقدت الإيكواس والأطراف الدولية أدوات ضغط فعّالة.
في هذا الوضع، تُدار البلاد عبر قرارات قصيرة المدى وتفاهمات غير رسمية، وتستمر مستويات التوتر السياسي مع مخاطر عودة المواجهات المسلحة أو موجات جديدة من التدخلات غير الدستورية. ويُعد هذا المسار الأكثر انسجامًا مع تاريخ البلاد في تعدد مراكز القوة وارتباطات بعض الضباط بشبكات الظل.
العوامل الضرورية لترجيح أيّ سيناريو
- تماسك القيادة العسكرية: أيّ انقسام داخلي سيعجّل بالمسار التفاوضي أو يعمّق الجمود.
- وحدة المعارضة السياسية: قدرة المعارضة على التحدث بصوت واحد عنصر مرجّح للتسوية.
- مستوى التورط في اقتصاد الظل: كلما ارتبطت مصالح بعض الأجنحة بتهريب المخدرات والأنشطة غير الرسمية، زادت احتمالات إطالة المرحلة العسكرية.
- قوة موقف الإيكواس: التجارب الأخيرة في غرب إفريقيا تُظهر تفاوتًا كبيرًا في قوة التدخل الإقليمي.
- حسابات الفاعلين الأوروبيين، خاصة البرتغال: لأن غينيا بيساو تقع على خطوط حساسة للهجرة والكوكايين، ما يجعل استقرارها أولوية أمنية مباشرة.
في نهاية المطاف، لا يتحدد مستقبل غينيا بيساو ببيان الانقلاب وحده؛ ولكنْ بقدرة الفاعلين المحليين والإقليميين على الوصول إلى صيغة تُعيد بناء الثقة وتضع إطارًا عمليًا لانتقال السلطة، وهي المعضلة المركزية التي لم تتجاوزها الدولة منذ استقلالها.
خاتمة
تُظهر أحداث 26 نوفمبر في غينيا بيساو أنها ليست مجرد حلقة جديدة في سجل بلدٍ اعتاد الاضطراب؛ ولكن انعكاس مباشر للمأزق البنيوي الذي يطبع المسار السياسي منذ عقود. فالأزمة التي انطلقت شرارتها من توتر انتخابي لم تكن نتاج خلل في الفرز أو تنازع لحظي حول الأرقام، بقدر ما كانت تعبيرًا عن عمق معضلة انتقال السلطة في دولة لم تنجح مؤسساتها بعد في تأسيس قواعد ثابتة للشرعية أو في ضبط توازنها مع مؤسسة عسكرية مثقلة بالإرث السياسي.
وفي خلفية المشهد، يواصل اقتصاد الظل، بشبكاته الممتدة في التهريب والمخدرات والموارد البحرية، إعادة تشكيل موازين القوة داخل الدولة بطرق لا تخضع دائما للحسابات الدستورية.
ولعل الأهم هو أنّ ما كشفته الأزمة الأخيرة يتجاوز المشهد العسكري والسياسي المباشر؛ ليعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول معنى الدولة في سياق هشّ، من يدير عملية الانتقال؟ ومن يمتلك سلطة تعريف الشرعية؟ وكيف يمكن لبلد صغير، تتنازع مؤسساته روايات متضاربة، وتخترقه شبكات مصالح عابرة للحدود، أنْ يبني مساراً ديمقراطيًّا قابلًا للثبات؟
إن هذا الانفصال بين الإجراءات الدستورية والواقع الفعلي للقوة جعل الانتقال السياسي في غينيا بيساو عملية محفوفة بالمخاطر، وقابلة للانقطاع عند كل منعطف انتخابي.
ومستقبل البلاد اليوم، يتراوح بين قدرة المجتمع الدولي، وخاصة الإيكواس والاتحاد الأوروبي، على فرض مسار تفاوضي يعيد ترتيب العملية الانتخابية، وبين استعداد الفاعلين المحليين لتجاوز منطق الهيمنة وإعادة تعريف أدوار المؤسسة العسكرية بعيدًا عن الحسابات التي أنتجها اقتصاد الظل.
فكل مسار من المسارات المحتملة مرهون بتوازنات دقيقة؛ مثل تماسك القيادة العسكرية، وحدة المعارضة، وضغط القوى الخارجية التي تخشى من تداعيات الانهيار على الهجرة والتهريب والأمن الإقليمي.
وفي المجمل، يبقى انقلاب 26 نوفمبر تذكيرًا بأن الديمقراطية في غرب إفريقيا ليست مجرد سباق انتخابي؛ بل معادلة معقدة تتداخل فيها الشرعية والسلطة والاقتصاد غير الرسمي في شبكة واحدة.
وأنّ بناء الاستقرار في غينيا بيساو لن يتحقق بمجرّد إعلان نتائج أو تغيير وجوه؛ بل بتأسيس مؤسسات قادرة على احتكار العنف المشروع، وضبط انتقال السلطة، وتحقيق ثقة عامة طال غيابها وسط دورة ممتدة من الانقلابات.
______________
مصادر
[1] https://apnews.com/article/guinea-bissau-presidential-palace-unrest-election-2a1371eb1ceb25596b99c4cc4062bc95
[2] https://en.wikipedia.org/wiki/2025_Guinea-Bissau_coup_d%27%C3%A9tat?utm_source=chatgpt.com
[3] https://pt.wikipedia.org/wiki/Golpe_de_Estado_na_Guin%C3%A9-Bissau_em_2025?utm_source=chatgpt.com
[4] https://www.reuters.com/world/africa/portugal-calls-end-violence-bissau-vote-counting-resuming-2025-11-26/?utm_source=chatgpt.com
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

























