وصلت زيارة ماكرون للغابون في 24 نوفمبر 2025 وسط جولة إفريقية تحمل رسائل سياسية تتجاوز بروتوكول العلاقات الثنائية.
فقد اختار ماكرون الغابون في توقيت تحاول فيه باريس إعادة ترميم حضورها داخل القارة بعد خسائر متتالية في الساحل، بينما تشهد المنطقة تنافسًا متسارعًا بين القوى الدولية على نفوذ استراتيجي يرتبط بالمعادن الحرجة، والممرات البحرية، ومشاريع الانتقال الطاقي.
ويأتي هذا التحرك الفرنسي في ظل قيادة غابونية جديدة ما تزال تعيد ترتيب أولوياتها الداخلية، وفي لحظة تتجه فيها البلاد لتثبيت موقعها الإقليمي كلاعب يمتلك ثروات معدنية مؤثرة، من المنغنيز إلى النيكل، إلى جانب موقع جغرافي يجعلها محط اهتمام القوى الكبرى.
وتحمل الزيارة أبعادًا أخرى تتعلق بسعي باريس لتعديل صورتها داخل إفريقيا جنوب الصحراء، عبر خطاب جديد يقوم على “الشراكة المتوازنة” بدل الاعتماد على النفوذ العسكري التقليدي.
كما تأتي في سياق عالمي يزداد فيه الضغط على فرنسا لإيجاد موطئ قدم مستقر داخل مناطق تتوسع فيها استثمارات الصين، ويتعزز فيها الحضور الروسي والتركي بطرق متعددة، من الأمن إلى البنية التحتية.
وبناء عليه، يهدف هذا الطرح إلى تحليل خلفيات الزيارة من خلال الأسئلة الجوهرية التي تثيرها، وهي تدور حول دوافع فرنسا الحقيقية، والمكاسب المتاحة للعواصم الإفريقية، وطبيعة التنافس الدولي حول الغابون، وانعكاسات الزيارة على الوضع السياسي الداخلي، وما إذا كانت الخطوة تمهد لتحول استراتيجي في السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا أم تبقى مجرد حركة تكتيكية.
ما هدف زيارة ماكرون للغابون؟
تشير زيارة ماكرون إلى ليبرفيل إلى محاولة فرنسية واضحة لاستعادة تموضعها داخل إفريقيا الوسطى بعد الهزات التي تعرضت لها باريس في السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد انسحاب قواتها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وخروجها الفعلي من منظومة الساحل.
وفي ظل هذا الفراغ، تسعى فرنسا إلى تحويل مركز ثقلها نحو دول أقل اضطرابًا وأكثر استقرارًا، والغابون واحدة منها.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تواجه فيه باريس منافسة منهجية من الصين (التي تستحوذ على أكثر من 40% من الاستثمارات المعدنية في الغابون)، وروسيا التي زادت حضورها العسكري في وسط إفريقيا، وتركيا التي رفعت حجم تبادلها التجاري مع الغابون إلى مستويات غير مسبوقة.
لذا، فإن زيارة ماكرون ليست مجرد جولة بروتوكولية، بل محاولة لإعادة صياغة “المعادلة الفرنسية” في إفريقيا عبر الاقتصاد، والمناخ، والتعاون الأمني الخفيف، بدل النموذج التقليدي القائم على الوجود العسكري المباشر.
كما أنّ اختيار الغابون، العضو الفاعل في منظمة الكومنولث منذ 2022، يحمل رسالة مزدوجة، وهي: أنّ باريس ما تزال قادرة على العمل مع شركاء اتجهوا نحو تنويع تحالفاتهم، وأنها مستعدة للقبول بقواعد جديدة للنفوذ لا تقوم على الاحتكار أو الإرث التاريخي.
ماذا ستستفيد الغابون ودول وسط إفريقيا من هذه الزيارة؟
بالنسبة للغابون، فإن الزيارة تحمل عدة مكاسب محتملة، أبرزها تعزيز شرعية الحكومة الانتقالية بعد التغيير السياسي في 2023، وإظهار انفتاح دولي يطمئن المستثمرين، خصوصًا في قطاعات التعدين والخشب والطاقة.
اقتصاديًا، قد تترجم الجولة إلى:
- شراكات حول الغابات الاستوائية: الغابون تمتلك واحدة من أهم منظومات الكربون والغابات في العالم، وقد تعهدت فرنسا سابقًا بدعم مبادرة “غابون الخضراء”، ما يفتح الباب لإعادة تمويل جهود حماية الغابات.
- تطوير قدرات صناعية للمعادن الحرجة: الغابون تملك ثاني أكبر احتياطي عالمي من المنغنيز، وفرنسا تبحث عن تقليل اعتمادها على الصين في سلاسل التوريد.
- مشاريع في الطاقة النظيفة: هناك اهتمام فرنسي متزايد بدعم مشاريع الهيدروجين الأخضر والطاقات المتجددة في إفريقيا الوسطى.
أما على المستوى الإقليمي، فإن الزيارة قد تُعيد تركيز باريس على منطقة وسط إفريقيا كموقع جيوسياسي مهم؛ لكن الاستفادة الفعلية ستظل مرهونة بقدرة الحكومات على صياغة اتفاقيات تحقق قيمة مضافة، لا مجرد نقل خامات أو توقيع مذكرات تفاهم لا تُنفذ.
هل الزيارة جزء من صراع نفوذ دولي في المنطقة؟
يمكن أن تكون الإجابة الصريحة بنعم، فالزيارة جزء من تنافس جيوسياسي متصاعد في قلب القارة.
حيث تقع الغابون على خليج غينيا، أحد أهم أحواض الطاقة في إفريقيا، وتملك احتياطيات معتبرة من المنغنيز والنيكل والذهب، وهي معادن ضرورية لصناعات البطاريات والسيارات الكهربائية، قطاع يشهد سباقًا عالميًا بين الصين، الولايات المتحدة، أوروبا، واليابان.
وتُعَدّ الصين أكبر شريك تجاري للغابون، وتتحكم شركاتها في جزء كبير من إنتاج المنغنيز. وأيضا روسيا بدورها عززت وجودها في المنطقة من خلال التعاون الأمني والمعدني في إفريقيا الوسطى والكاميرون. كما أنّ تركيا توسّع حضورها في البنية التحتية والمقاولات.
فضمن هذا المشهد، تُقرأ زيارة ماكرون كتحرك دفاعي لمنع فقدان السيطرة على منطقة كانت تاريخيًا ضمن “النطاق الفرنسي”، خاصة مع انتقال الغابون إلى الكومنولث، ما يعني انفتاحاً أكبر على الشركاء الأنغلوفونيين.
بمعنى آخر، قد تعتبر الزيارة رسالة واضحة، تقول: باريس لن تترك المنطقة للصين وروسيا بسهولة.
كيف ستؤثر الزيارة على التوازنات السياسية داخل الغابون؟
تأتي الزيارة في مرحلة حساسة من السياسة الداخلية الغابونية، حيث تسعى الحكومة الجديدة، التي وصلت إلى الحكم بعد إنهاء حكم عائلة بونغو، إلى تثبيت شرعيتها داخليّاً وخارجيّاً.
فزيارة ماكرون تمنح السلطة المنتخبة حديثا دفعة دبلوماسية مهمة، وتعزز صورتها كشريك يمكنه بناء علاقات متوازنة مع القوى الغربية، خصوصا بعد الانفتاح على الكومنولث.
لكن التأثير الداخلي ليس أحاديًا؛ فهناك حساسيات تاريخية ضد النفوذ الفرنسي، وقد تستغل المعارضة أو المجتمع المدني أي تقارب مفرط مع باريس للتشكيك في استقلالية القرار الوطني.
كما أنّ أيّ اتفاقيات تعدين جديدة ستخضع لمراقبة دقيقة، خاصة مع تزايد المطالب بإدخال “المحتوى المحلي” وتطوير سلاسل قيمة داخلية بدل تصدير المواد الخام كما كان يحدث سابقًا.
وبالتالي، فإنّ نجاح الحكومة يعتمد على موازنة المكاسب السياسية مع تجنب الظهور كامتداد للمصالح الفرنسية.
هل تمثل الجولة تحولا في السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا؟
تحاول فرنسا منذ 2023 إعادة صياغة سياستها الإفريقية تحت عنوان “النهاية الفعلية لفرانسافريك”. وطرح ماكرون خطابًا يقوم على:
- تقليص الوجود العسكري المباشر؛
- تعزيز الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية؛
- دعم المشاريع البيئية الكبرى؛
- احترام سيادة الدول الإفريقية في ترتيب تحالفاتها.
فزيارة ماكرون للغابون تعكس هذا التحول في الشكل؛ لكنها لا تكفي لتأكيد تغيّر جوهري في الجوهر. لأن باريس ما تزال تبحث عن منافذ لحماية مصالحها في المواد الخام والطاقة والمحيط الأطلسي.
فالتحول الحقيقي لن يُقاس بالخطابات الرنّانة؛ بل بقدرة فرنسا على تحقيق ما يلي:
- قبول المنافسة الدولية الجديدة دون فرض وصاية؛
- دعم التصنيع المحلي بدل تصدير المواد الخام؛
- تقديم شراكات تنموية لا تحمل طابعًا فوقيًا؛
- واحترام استقلالية الدول الإفريقية حتى لو اتجهت نحو موسكو أو بكين.
إذن، فالجولة خطوة في مسار جديد، لكنها ليست نهاية المعادلة القديمة بعد.
الخلاصة
تكشف زيارة ماكرون إلى ليبرفيل عن استمرار فرنسا في التمسك ببعض آخر جيوب نفوذها التقليدية داخل منطقة السيماك في وسط القارة الإفريقية، ولا سيما الدول التي لم تُظهر حتى الآن قدرة حقيقية على إعادة صياغة علاقاتها الخارجية، مثل الغابون والكاميرون وغينيا الاستوائية.
فليبرفيل، رغم موقعها الحيوي ومواردها المعدنية الهائلة، ما تزال تعتمد على باريس في ضمان الاستقرار السياسي والدعم الدولي، وهو ما بدا واضحاً في مرحلة ما بعد الانقلاب، ثم في المسار الانتقالي السريع الذي انتهى بعودة الشخص نفسه إلى السلطة في انتخابات جرى التحكم في مسارها بعناية.
لكن أهمية الزيارة لا تكمن في “استقلال” الغابون، وهو غير قائم فعليّاً؛ بل في دلالاتها على لحظة جيوسياسية تسمح لإفريقيا ككل بإعادة تعريف موقعها.
فالمشهد الدولي الحالي لا يمنح الدول الإفريقية قوة تلقائية؛ لكنه يفتح لها هامش مناورة غير مسبوق بين شركاء يتنافسون على مواردها وموقعها الاستراتيجي. وهنا يكمن جوهر التحول، ليس في أداء الغابون؛ ولكن في البيئة العالمية التي تتيح لمن يريد أن يبني استقلالًا حقيقيًا فرصة لصياغة علاقة مختلفة.
وبذلك، تصبح زيارة ماكرون اختباراً ليس لفرنسا وحدها؛ بل للدول الإفريقية أيضًا. فهل ستظل بعض العواصم تكرر أنماط الارتهان القديم، أم ستتعلم ولو تدريجيًا، تحويل هذا التنافس الدولي إلى نفوذ مؤسسي واستراتيجي يخدم مصالحها؟
الجواب لن يُحدده خطاب باريس، ولا روايات المجموعات الحاكمة فحسب؛ بل قدرات إفريقيا نفسها على إدارة لحظة دولية تتغير بأسرع مما تسمح به التحالفات التقليدية.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.





























