تشهد الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار (ساحل العاج)، التي جرتْ يوم السبت 25 أكتوبر 2025م، لحظةً حاسمة في مسار هذا البلد الواقع في غرب إفريقيا، إذْ يخوض الرئيس الحسن واتارا (Alassane Ouattara)، البالغ من العمر 83 عامًا، سباقًا انتخابيًا جديدًا يسعى من خلاله إلى ولايةٍ رابعة قد تمدد حكمه إلى نحو عقدين منذ توليه السلطة في عام 2011، عقب الأزمة الدامية التي أعقبت انتخابات 2010 وأسفرت عن مقتل أكثر من 3,000 شخص.
تأتي هذه العودة إلى صناديق الاقتراع وسط جدلٍ وطني ودولي حول حدود الشرعية الديمقراطية في بلدٍ يُعدّ من أسرع اقتصادات القارة نموًا، وأشدها حساسيةً تجاه ذاكرة الصراع السياسي.
وعلى الرغم منْ أنّ واتارا يُنظر إليه بوصفه مهندس الاستقرار الاقتصادي بعد الحرب الأهلية؛ حيث قاد بلاده لتحقيق معدل نمو سنوي تجاوز 6% خلال العقد الماضي بفضل صادرات الكاكاو والبنية التحتية، فإنّ معارضيه يرون أنّ تلك الإنجازات الاقتصادية جاءت على حساب التوازن السياسي والتعددية الديمقراطية.
فقد استُبعد عدد من أبرز المنافسين من السباق، من بينهم لوران غباغبو (Laurent Gbagbo) الرئيس الأسبق، وتيجان تيام (Tidjane Thiam) الرئيس التنفيذي السابق لمصرف كريدي سويس، وهو ما فجّر موجة احتجاجات متفرقة في العاصمة أبيدجان (Abidjan) ومدن أخرى، وذكّر الإيفواريين بمآسي الانتخابات السابقة عامي 2010 و2020 حين انزلقت البلاد إلى دوامة عنفٍ سياسي.
وفي ظل سيطرة حزب واتارا، التجمع من أجل الديموقراطية والسلام (RHDP)، على غالبية مقاعد البرلمان، تبدو موازين القوى السياسية راجحة لصالح الرئيس الحالي، إلا أن الشارع الإيفواري يعيش حالة انقسامٍ حاد بين من يرى في ترشحه استمرارًا لمسار التنمية، ومن يعتبره امتدادًا لثقافة التمديد في الحكم التي طالت عدة زعماء في القارة، مثل يوري موسيفيني في أوغندا وبول بيا في الكاميرون.
وعليه، يهدف هذا المقال إلى تحليل أبعاد هذه الانتخابات من منظورٍ بنيوي واستراتيجي؛ حيث يربط بين مسار السياسة والاقتصاد وذاكرة الصراع في كوت ديفوار، من خلال مناقشة ثلاث قضايا رئيسة، وهي:
- الخلفيات السياسية والاقتصادية التي مهدت لقرار واتارا الترشح لولاية رابعة رغم الجدل الدستوري.
- موازين القوى داخل المشهد الانتخابي وتداعيات إقصاء أبرز شخصيات المعارضة.
- انعكاسات الانتخابات على الاستقرار الداخلي ومستقبل الديمقراطية في كوت ديفوار وفي منطقة غرب إفريقيا الأوسع.
أولًا: الجدل الدستوري وتمديد السلطة
منذ أن صعد الرئيس الحسن واتارا إلى السلطة في أبريل 2011، عقب الأزمة الانتخابية العنيفة التي مزّقت كوت ديفوار بين أنصاره وأنصار الرئيس الأسبق لوران غباغبو، حافظ الرجل على صورة “مهندس الاستقرار الاقتصادي”.
غير أن قرار الترشح مجدداً في الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار لعام 2025، بعد ثلاثة عشر عاماً في الحكم، فتح الباب أمام أوسع جدل دستوري وسياسي منذ الاستقلال.
ويستند واتارا إلى التعديل الدستوري الذي أُقر عام 2016 باعتباره “إعادة تأسيس” للنظام الجمهوري، وبالتالي تصفيرًا للعداد الدستوري، ما يمنحه – في تفسيره – الحق في الترشح مجددًا.
لكنْ هذا التبرير لم يقنع خصومه الذين يرون في القرار تجاوزًا لروح الدستور، ومحاولةً لتكريس “جمهورية الشخص الواحد”.
فالمعارضة، بقيادة تيارات مرتبطة بحزب الجبهة الشعبية الإيفوارية (FPI) وأنصار غباغبو، تعتبر أنّ البلاد تدخل مرحلة “تعب الديمقراطية” التي تشهدها عدة دول إفريقية؛ حيث تتحول التعديلات الدستورية إلى أدوات لإدامة الحكم لا لتطويره.
ورغم الانتقادات الموجهة إليه، فإنّ واتارا يقدّم نفسه كخيار “الاستقرار والجدارة التقنية”، مستنداً إلى تاريخه في صندوق النقد الدولي، وخبرته المالية التي يعتبرها ضمانة ضد التراجع الاقتصادي.
وبين هذا الخطاب الإصلاحي والرغبة في البقاء في السلطة، يتجلى التوتر الأبرز في التجربة الإيفوارية، ألا وهو: كيف يمكن الجمع بين استمرارية النمو الاقتصادي وتجديد الحياة الديمقراطية في الوقت ذاته؟
ثانيًا: اختلال التوازن السياسي وإقصاء المعارضة
أُجْرِيت الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار ضمن مشهد سياسي تسيطر عليه أُحادية شبه كاملة لحزب واتارا، التجمع من أجل الديمقراطية والسلام، الذي يمتلك أغلبية مطلقة في البرلمان (169 من أصل 255 مقعدًا). هذه الهيمنة البرلمانية، جعلت العملية الانتخابية تبدو أقرب إلى “استفتاءٍ على الحاكم” منها إلى منافسةٍ حقيقية.
إذِ استُبعد من السباق مرشحون بارزون كان يمكن أنْ يهددوا هيمنة واتارا، من أبرزهم الرئيس الأسبق لوران غباغبو؛ لأسباب قانونية تتعلق بإدانته السابقة من المحكمة الجنائية الدولية، وتيدجان تيام، المصرفي الدولي والرئيس التنفيذي السابق لمصرف كريدي سويس، بدعوى ازدواج الجنسية.
أما المرشحون الأربعة الآخرون، مثل: سيمون غباغبو، وجان لوي بيلون (Jean-Louis Billon)، فقد ركزت حملاتهم على قضايا الزراعة والتشغيل؛ لكنها لم تجد مساحة إعلامية أو مؤسساتية متكافئة.
وفي خلفية هذا المشهد، تنتشر ذكرى انتخابات 2010 التي تسببت في مقتل أكثر من 3,000 شخص، وهي الذاكرة التي ما زالت تلقي بظلالها على الحاضر الإيفواري.
وفي ظل هذا التوتر، فقد نشرت الحكومة أكثر من 40 ألف عنصر أمني لتأمين الانتخابات، في خطوة تُظهر حرصاً على تجنب الفوضى؛ لكنها أيضاً تعكس عمق انعدام الثقة المتبادل بين الدولة والمعارضة.
وفي هذا الإطار، يرى محللون من مجموعة الأزمات الدولية (ICG) أنّ غياب المنافسة الحقيقية “يؤسس لاستقرار سطحي مؤقت”؛ إذْ إنّ الاقتصار على مؤسسات شكلية يضعف شرعية النظام على المدى البعيد، ويجعل الاستقرار السياسي رهيناً بشخص الرئيس أكثر من بنية الدولة.
ثالثًا: تداعيات الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار على الاستقرار الإقليمي
لا تقتصر أهمية الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار 2025م على بعدها المحلي فحسب؛ بل تمتد إلى بعدها الإقليمي في غرب إفريقيا؛ حيث تعاني المنطقة من تصدعات حادة نتيجة الانقلابات العسكرية المتتالية في مالي (2020 و2021)، وبوركينا فاسو (2022)، والنيجر (2023).
وفي هذا السياق، يُنظر إلى كوت ديفوار كـ “نقطة اتزان اقتصادي وأمني”، إذْ تحتضن مقر البنك المركزي لدول الاتحاد النقدي لغرب إفريقيا (BCEAO)، وتشارك بفاعلية في عمليات مكافحة الإرهاب في الساحل.
أمّا من الناحية الاقتصادية، فتظل البلاد أكبر منتج للكاكاو في العالم، وقد بلغ ناتجها المحلي الإجمالي نحو 85 مليار دولار عام 2024م.
إلّا أنّ هذا الأداء يخفي تفاوتات اجتماعية واسعة، فوفقاً للبنك الدولي يعيش أكثر من 36% من السكان تحت خط الفقر، فيما تبلغ بطالة الشباب نحو 20%. تكشف هذه الأرقام عن مفارقة واضحة، مفادها: نمو اقتصادي بلا تنمية عادلة.
ويرى مراقبون، من ضمنهم الخبير الإيفواري آمادو كوني منْ جامعة فيليكس هوفويت بوانييه في أبيدجان، أنّ استمرار واتارا في الحكم من دون تجديدٍ سياسي قد يهدد هذه المكاسب الاقتصادية، إذْ إنّ “النمو دون تجديد في النخب هو نمو بلا آفاق”.
وعلى الصعيد الشعبي، تتصاعد الأصوات المطالبة بـ “الجيل الجديد من القيادة”، خصوصاً بين فئة الشباب الذين يشكلون أكثر من 60% من السكان.
لم يعايش هؤلاء الحرب الأهلية؛ لكنهم يعيشون آثارها الاقتصادية والاجتماعية، ويطمحون إلى نموذج حكمٍ يوازن بين الاستقرار الاقتصادي والديمقراطية الفاعلة.
وعليه، يمكننا القول إنّ مستقبل الديمقراطية في كوت ديفوار سيتوقف على قدرة النظام الحالي على تحويل شرعية النمو إلى شرعية مشاركة؛ بحيث لا تبقى الدولة رهينة الأداء الاقتصادي وحده؛ ولكن تُقاس بمدى انفتاحها السياسي ومساءلتها العامة.
خاتمة: حين يصبح الاستقرار سؤالًا مفتوحًا
مع انتهاء الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج 2025م، لم يُغلق النقاش حولها بقدر ما اتسعت دوائره. فالمشهد الذي بدا محسوماً على الورق لا يزال ينبض بتناقضاته في الشارع؛ حيث تتقاطع الطموحات الاقتصادية مع الأسئلة المؤجلة عن الشرعية والتجديد.
وتبدو البلاد ماضية في طريقٍ يوازن بين استمرار المسار القائم، وتنامي الحاجة إلى تنفّسٍ سياسي جديد. فالفوز المتوقع للرئيس الحسن واتارا يمنح الاقتصاد دفعةً إضافية من الثقة والاستقرار؛ لكنه في الوقت نفسه يعيد إلى السطح إشكالية السلطة الممتدة، تلك التي تُبقي الاستقرار مشروطًا بالشخص لا بالمؤسسات.
أما الرغبة الشعبية في التغيير، فتكبر بهدوء تحت السطح، متغذية من وعيٍ شبابي يتجاوز ذاكرة الحرب ويبحث عن معنى جديد للعدالة والمشاركة.
وقد تشهد المرحلة المقبلة فترة من الهدوء النسبي، تُواصل فيها الحكومة استثماراتها في البنية التحتية والقطاع الزراعي، بينما تبقى ملفات الإصلاح السياسي مؤجلة إلى ما بعد الاطمئنان إلى «الاستقرار».
غير أنّ هذا التوازن الدقيق بين التنمية والانفتاح، لا يمكنه أنْ يدوم طويلًا دون إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع. فالتنمية التي لا تُترجم إلى تمثيلٍ سياسي أوسع، ستفقد بريقها مع الوقت، خصوصاً في بلدٍ يمتلك ذاكرة خصبة بالأزمات، وثقافةً سياسية لا تنسى بسهولة.
وربما تكمن المفارقة الكبرى هنا، وهي: أنّ الدولة التي نجتْ من حروبها الأهلية بفضل الانضباط الاقتصادي، قد تجد نفسها أمام امتحانٍ جديد، عنوانه “الاستقرار الديمقراطي”. فالتحدي الحقيقي ليس في استمرار النمو فحسب؛ بل في ضمان أنْ يكون لكل هذا النمو صوتٌ وتمثيل.
وفي النهاية، قد لا تكون كوت ديفوار أمام أزمةٍ سياسية وشيكة؛ لكنها بالتأكيد أمام سؤالٍ مفتوحٍ عن شكل المستقبل ومن يملكه. سؤالٌ لا تجيب عنه صناديق الاقتراع وحدها؛ بل إرادة أمةٍ قررتْ أنْ لا تختزل العدالة في رقمٍ، ولا الديمقراطية في شخص.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.




