مع حصار الفاشر خلال 2023–2025، تدخل الأزمة السودانية مرحلة مفصلية؛ حيث تحوّل الصراع بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من مواجهة عسكرية إلى كارثة إنسانية واسعة. وبناء عليه، يوضح المقال الخلفيات الهيكلية للأزمة، خصوصًا خلاف دمج قوات الدعم السريع والدعم الإقليمي الذي أطال أمد الحرب، ما جعل الفاشر مركزًا للصراع وهدفًا لانتهاكات ممنهجة ومنع للمساعدات ونزوح يهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي. ويؤكد المقال أن مصير الفاشر يمثل اختبارًا لمسؤولية المجتمع الدولي لحماية المدنيين، وأن تجاوز الأزمة السودانية يتطلب وقفًا فوريًا لإطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية، وتحقيق العدالة، وبدء عملية سياسية شاملة تمنح المدنيين دورًا مركزيًا.
1. تصاعد الصراع في دارفور
اندلع الصراع الحالي في السودان على خلفية عدم الاستقرار الهيكلي الذي أحدثته مفاوضات ورشة عمل “الإصلاح الأمني والعسكري”، وهي المرحلة الأخيرة من الانتقال السياسي المخطط له بموجب الاتفاق الإطاري الموقع عام ٢٠٢٢.
وكان السبب الجذري للأزمة هو الخلاف العميق حول دمج قوات الدعم السريع (RSF/HDK)، وهي كيان شبه عسكري، في القوات المسلحة السودانية. وأدى الفشل في حل أزمة الدمج هذه إلى اندلاع اشتباكات عسكرية بين الطرفين في ١٥ أبريل ٢٠٢٣.
وفي هذا الصدد، تُشير أصوات متعددة من القادة السياسيين إلى أن الصراع الدائر حاليًا يُمثّل محاولة من قوات الدعم السريع (RSF)، التي تُوصف بأنها قوات متمردة، لـالانقلاب على السلطة، وهي المحاولة التي لم تنجح.
وبناءً على ذلك، يقولون إن الحرب اكتسبت بُعدًا خارجيًا، حيث تُتهم قوات الدعم السريع بأنها مدعومة من دولة الإمارات العربية المتحدة بهدف الاستيلاء على موارد السودان الاستراتيجية، بما في ذلك الثروات المعدنية، والموارد الطبيعية، والأراضي الزراعية.
وتُشير تقارير حقوقية وشهادات إعلامية واسعة إلى تصاعد خطير في وتيرة انتهاكات حقوق الإنسان المنسوبة إلى قوات الدعم السريع (RSF) في مناطق النزاع الرئيسية. ومعظم هذه الاتهامات تتركز حول ارتكاب مجازر جماعية وعمليات قتل خارج نطاق القانون في ولايات متعددة.[1] ففي ولاية الخرطوم، وردت تقارير عن وقوع انتهاكات واسعة في أحياء ومناطق سكنية متفرقة.
أما في ولاية الجزيرة، فقد سُجّلت اتهامات بارتكاب مجازر في عدة قرى، منها على سبيل المثال لا الحصر، ود النورة (التي وردت عنها تقارير دولية مكثفة) إلى جانب قرى أخرى في المنطقة.[2] وامتدت دائرة الانتهاكات لتشمل مناطق أخرى، حيث تُفيد التقارير باستمرار عمليات النهب الممنهج، وحرق المنازل، والاعتداءات الجسدية في أجزاء من ولايتي كردفان وسنار.
وتُعدّ الاتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك عمليات القتل العمد والاغتصاب والعنف الجنسي كأداة حرب، من أخطر الانتهاكات التي تتطلب تحقيقًا دوليًا فوريًا ومحاسبة المسؤولين عنها.[3]
وسرعان ما تصاعد الصراع ليتحول إلى أزمة وطنية، مما أدى إلى نزوح ملايين المدنيين. ويُقدر عدد المدنيين الأبرياء الذين قُتلوا منذ بداية الحرب بما يتراوح بين ٦٠ ألفًا و١٦٠ ألفًا. وخلال هذه الفترة، لجأ حوالي مليوني مواطن سوداني إلى الدول المجاورة، بينما تجاوز عدد النازحين داخليًا عشرة ملايين.
وعززت قوات الدعم السريع وجودها الاستراتيجي في إقليم دارفور غرب البلاد، مسيطرةً على جميع محافظات الإقليم الخمس. أدى حصار الفاشر، عاصمة شمال دارفور، والاستيلاء عليها إلى انتهاكات إنسانية جسيمة ومجازر. كما فاقمت هذه القوات العسكرية الأزمة بعرقلتها وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع.
طوال فترة الحرب، اتُهمت قوات الدعم السريع بارتكاب جرائم قتل جماعي وانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان استهدفت المدنيين في مدن عديدة، لا سيما في إقليم دارفور. ووثّقت منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية عشرات الحوادث، بما في ذلك عمليات قتل خارج نطاق القضاء، واعتداءات جنسية، ونهب، وفي بعض المناطق، تطهير عرقي.
اندلع الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في الخرطوم في 15 أبريل/نيسان 2023، قبل أن يمتد إلى إقليم دارفور.
ونتيجةً لذلك، أصبحت مدينة الفاشر الجبهة الأكثر حسمًا في الصراع. فإلى جانب كونها عاصمة ولاية شمال دارفور، تتمتع الفاشر بأهمية عسكرية ولوجستية حيوية. فبالإضافة إلى كونها مركزًا إداريًا حيويًا للأطراف المتصارعة في المنطقة، توفر المدينة أيضًا ميزة استراتيجية من خلال سيطرتها على ممرات لوجستية وإنسانية رئيسية تؤدي إلى الحدود بين غرب دارفور وتشاد وليبيا. لذلك، تُعتبر السيطرة على الفاشر عاملًا رئيسيًا في تحديد الهيمنة العسكرية والسياسية في ولايات دارفور.
ولقد أدى فشل الجهود الدبلوماسية طوال عامي 2024 و2025، إلى جانب إصرار كلا الجانبين على تحقيق نصر عسكري، إلى تكثيف تدريجي للضغط على الفاشر في النصف الثاني من عام 2025. وهذا يستلزم معالجة الصراع المطول ليس فقط كصراع عسكري، بل كأزمة حماية أيضًا، حيث تُنتهك مبادئ القانون الدولي الإنساني بشكل خطير.
إن تطويق المدينة وقطع الطرق الإنسانية، وخاصة بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2025، يُظهر الأثر المدمر للصراع ليس فقط على خطوط المواجهة، بل أيضًا على بقاء السكان المدنيين.
سيعكس هذا التقييم، الذي سيُجرى من خلال رصد باحث سوسيولوجي، وضعًا وجوديًا لشخص يشهد هذه الأزمة من قلب الفاشر، إذ يتجاوز تحليل الصراع الحسابات الاستراتيجية المجردة. وبصفتها آخر معقل رئيسي للحياة المدنية في دارفور، تُعدّ الفاشر المكان الذي يتجلى فيه خطر الفظائع الجماعية بشكل أكبر منذ الإبادة الجماعية في أوائل القرن الحادي والعشرين.
وتؤوي المخيمات في مدينة الفاشر ومحيطها (نيفاشا، وأبوجا، وزمزم) نازحين.[4]مئات الآلاف من المدنيين في هذه المنطقة ليسوا فقط جزءًا من مأساة إنسانية شهدها المجتمع الدولي، بل هم أيضًا محاصرون بتكتيك حصار عسكري مباشر. إن الأطفال في هذه المنطقة، الذين يكبرون وسط صراع لا هوادة فيه وأزمة غذائية متفاقمة، هم الوجه الأكثر واقعية ومأساوية للحرب.
لذلك، لا يُنظر إلى الوضع في الفاشر على أنه ورقة مساومة استراتيجية ولا جبهة قتال، بل كرمز ملح لكفاح شعب دارفور من أجل البقاء. إنه كابوس يتجاوز اللغة الدبلوماسية ويتطلب حماية وتدخلًا عاجلين.
ولتحقيق هذه الغاية، حددنا ثلاثة محاور رئيسية لفهم أعمق لمذبحة الفاشر: الديناميكيات العسكرية والجمود الاستراتيجي؛ التكرار التاريخي والشلل الدبلوماسي؛ والأبعاد المدمرة للكارثة الإنسانية والانهيار الاجتماعي.
2. الديناميكيات العسكرية والجمود الاستراتيجي
تعتمد الديناميكيات العسكرية في الفاشر على سعي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لتحقيق نصر عسكري. وكان السبب الرئيسي لفشل محادثات وقف إطلاق النار التي عُقدت في جنيف في أغسطس/آب 2024 هو إصرار الجانبين على إعطاء الأولوية للحل العسكري على الدبلوماسية. وقد أدى هذا الإصرار إلى تصعيد الهجمات والحصار الذي استهدف الفاشر طوال عام 2025.
في يوم الجمعة الموافق 18 سبتمبر 2025، استهدفت قوات الدعم السريع مسجد بحي “الدرجة الأولى” بمدينة الفاشر بطائرة مسيرة أثناء صلاة الفجر. أسفر الهجوم عن مقتل 75 مدنيًا، ووصفت الأوساط الدولية الحادثة بأنها “جريمة قتل جماعي”.[5]
اعتبارًا من 21 سبتمبر/أيلول 2025، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة من تفاقم الأزمة بشكل كبير. وهذا يشير إلى أن قوات الدعم السريع تدخل المراحل الأخيرة من استراتيجيتها للسيطرة على المدينة أو طرد القوات المسلحة السودانية منها تمامًا. ويُعدّ الاستيلاء على المدينة تطورًا استراتيجيًا حاسمًا قد يُغيّر موازين القوى العسكرية والسياسية في دارفور مؤقتًا لصالح قوات الدعم السريع.
خلال الحصار، شنّت قوات الدعم السريع أكثر من 260 هجومًا خطيرًا على مركز المدينة باستخدام طائرات مسيرة وأنظمة مدفعية.
ترتبط الجوانب العسكرية للصراع ارتباطًا مباشرًا بالمنع المتعمد لوصول المدنيين والمساعدات الإنسانية. وقد استُخدم منع الوصول اللوجستي كأداة ضغط عسكري ممنهجة، ويشكل انتهاكًا واضحًا للقانون الإنساني الدولي، ولا سيما مبدأ حماية الأعيان الأساسية لبقاء السكان المدنيين.
لمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، أُغلق معبر أدري الحدودي، وهو معبر حيوي، وقامت قوات الدعم السريع بإغلاق طريق الدبة. هذا التوقف لحركة المساعدات يُفاقم المعاناة والضغط على المدنيين.
في الفاشر، حوصر عدد كبير من السكان المدنيين في وسط مناطق الصراع ولم يتمكنوا من تلقي المساعدات منذ منتصف يونيو/حزيران 2025. وتُظهر هذه الملاحظة بوضوح أن المدنيين ليسوا مجرد ضحايا عشوائيين للحرب، بل يُجبرون عمدًا على اتخاذ مواقع عرقلة أو رهائن من أجل استراتيجية عسكرية.
بدلاً من الصراع المسلح المباشر، تستخدم الميليشيات أساليب مختلفة لإكراه المدنيين. يُظهر التحليل العسكري أن هذه الجماعات تزيد الضغط على المدنيين من خلال وسائل مثل التجويع والجفاف والحرمان من الضروريات الأساسية. وهذا يدعم فكرة استخدام المساعدات الإنسانية والموارد الأساسية كتكتيك حربي.[6]
سُجِّل حصار الفاشر كعملية عسكرية شنّتها قوات الدعم السريع في 10 مايو/أيار 2024، وتضمَّن حصارًا استراتيجيًا للمدينة. واستندت قوات الدعم السريع في هذا الإجراء إلى اتهاماتٍ بأن الحركات المسلحة الداعمة للجيش في دارفور انتهكت التزامها بعدم المشاركة في الحرب. وقد مارس هذا الحصار، الذي استمر لأكثر من خمسمائة يوم، ضغطًا عسكريًا واقتصاديًا وإنسانيًا شديدًا على المدينة.
وخلال الحصار، شنّت قوات الدعم السريع أكثر من 260 هجومًا خطيرًا على مركز المدينة باستخدام طائرات مسيرة وأنظمة مدفعية. وانتهى هذا الجمود الاستراتيجي بالانسحاب النهائي للقوات المسلحة السودانية، وسيطرت ميليشيا قوات الدعم السريع على الفاشر في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025.
3. التكرار التاريخي والشلل الدبلوماسي
تُمثل أزمة الفاشر تكرارًا خطيرًا لخطر الفظائع الجماعية التي شهدها إقليم دارفور في تاريخه. ويُمثل بطء استجابة المجتمع الدولي وتقصيرها في الاستجابة لتحذيرات الإبادة الجماعية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين معيارًا حاسمًا لدراسة أزمة عام ٢٠٢٥.
إن الانتقادات التي وجهت إلى السياسة الأميركية في عام 2007، والتي ربطت بين “المساعدات الإنسانية السخية والتهديدات غير المحققة والدبلوماسية غير الكفؤة”، تشير إلى معضلة مماثلة في عام 2025. إن ظهور احتمال وقوع كارثة بنفس الحجم بعد ثمانية عشر عامًا يشير إلى أن النظام الدولي يعمل على إدامة دورة من اللامبالاة الهيكلية أو التقاعس تجاه دارفور.[7]
الأمر الأكثر خطورة بحسب ما جاء في بيان القوات المسلحة السودانية والقوات المشتركة المتحالفة معها أن قوات الدعم السريع أعدمت خارج نطاق القضاء أكثر من ألفي مدني أعزل في مدينة الفاشر، غرب السودان، منذ يوم الأحد (26-27 أكتوبر/تشرين الأول 2025). ووُصفت هذه الحوادث، التي أكدتها صور الأقمار الصناعية، بأنها انتهاكات صارخة للقانون الإنساني الدولي، وتشكل فظائع واسعة النطاق.
عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، وقعت مذبحة ضخمة في الفاشر. ووفقًا لتقارير دولية، قُتل أكثر من 460 مريضًا ومرافقيهم في مستشفى الولادة السعودي بالفاشر في هذه الحادثة التي نفذتها قوات الدعم السريع، وأُجبر حوالي 26 ألف شخص على الفرار من المنطقة رعبًا.
وكشفت تقارير موثقة صادرة عن المركز العالمي لمسؤولية الحماية أن العنف بدوافع عرقية والإعدامات الميدانية التي لوحظت في الفاشر قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل وحتى إبادة جماعية بموجب القانون الجنائي الدولي. وتُظهر هذه النتائج أن الصراع في المنطقة يتجاوز مجرد الجمود الاستراتيجي، وينطوي على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تتطلب مساءلة قانونية.[8]
تعكس الأزمة في السودان، اعتبارًا من أكتوبر/تشرين الأول 2025، فترةً اتسمت فيها الجهود الدبلوماسية الدولية بالعجز إلى حد كبير. والسبب الرئيسي لفشل محاولات الوساطة في عام 2024 (من قِبل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وآخرين) هو تمسك كلٍّ من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بإيمانهما بتحقيق حل عسكري نهائي ميدانيًا، بدلًا من التركيز على الحلول الوسطية على طاولة المفاوضات.
يُظهر استمرار الصراع ونزوح 12 مليون شخص عجز المجتمع الدولي عن تشكيل جبهة موحدة ووضع آليات ضغط فعّالة. ومع تركيز القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على النصر العسكري، يتضاءل دافعهما للعودة إلى طاولة المفاوضات. ويتفاقم هذا النقص في التحفيز بفعل دعم قوى إقليمية، مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر، لأطراف مختلفة سعياً وراء مصالحها الخاصة.
ويُطيل هذا التدخل الخارجي أمد الصراع ويُقوّض جهود الوساطة الدولية داخلياً، مما يُؤدي إلى شلل دبلوماسي دائم. ويُعتبر سقوط الفاشر أو حصارها المُطوّل نقطة تحول قد تُفضي إلى عواقب إقليمية قد تُؤدي إلى انفصال دارفور عن الهيكل المركزي السوداني.

4. الأبعاد المدمرة للكارثة الإنسانية والانهيار الاجتماعي
وصل الوضع الإنساني في الفاشر إلى مستويات حرجة في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أي قبل أربعة أيام فقط من 27 أكتوبر/تشرين الأول 2025، عندما أصدرت وكالات الأمم المتحدة الأربع الرئيسية (المنظمة الدولية للهجرة، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، واليونيسيف، وبرنامج الأغذية العالمي) نداءً مشتركاً، مؤكدة أن الوضع على الأرض غير قابل للاستمرار.[9]
وتعكس مطالب الوكالات (الوقف الفوري للأعمال العدائية، ووصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتبسيط الإجراءات) واقع أن الوصول إلى الإمدادات الأساسية من الغذاء والدواء والمياه مقيد عسكريًا، وأن تدفقات المساعدات محاصرة بآليات السيطرة السياسية. وتُستخدم هذه العراقيل البيروقراطية عمدًا لإبطاء إيصال المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع.
دفعت الحرب المدينة إلى شفا مجاعة من صنع الإنسان. يتعرض الأطفال الذين يعيشون في المدينة والمخيمات المحيطة بها (وخاصة الفارين من زمزم) لخطر انتشار المجاعة. تتزايد حالات سوء التغذية الحاد الشديد، لكن التدخلات تُعيقها المعارك الدائرة وحصار الوصول.
في هذا السياق، تُلحق الاشتباكات في الفاشر أضرارًا لا رجعة فيها بالنسيج الاجتماعي والبنية النفسية والاجتماعية. فبعد الهجوم على مخيم زمزم في أبريل/نيسان 2025، اضطر حوالي 350 ألف شخص إلى الفرار من الفاشر إلى محلية طويلة، حيث سار المواطنون الفارون مسافة 60-70 كيلومترًا عبر الأراضي القاحلة.[10]
يؤكد تقرير اليونيسف الصادر في يوليو 2025 أن الأطفال في شمال دارفور يعانون من “عنفٍ مروع، ونزوح، وصدمات نفسية”. فقد شهد الأطفال مقتل أو إصابة أفراد من عائلاتهم، ويعانون من “ضيق نفسي شديد، وكوابيس، وقلق، وحزن”. وهذا يُنشئ حاجةً ملحةً لتوفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي.
أُغلقت المدارس أو احتلت لسنوات بسبب النزاع، مما حرم عشرات الآلاف من الأطفال من تعليمهم. كما أن إغلاق المؤسسات التعليمية يعني فقدان الاستقرار والفوائد النفسية والاجتماعية التي توفرها المدارس خلال الأزمات، مما يُهدد بضياع جيل كامل، مما سيعيق التعافي الاجتماعي.
وقد أدت فوضى الحرب إلى تفكك شبكات حماية الطفل المحلية، وتزايدت تقارير العنف القائم على النوع الاجتماعي في خضم هذه الفوضى. وهذا يُظهر التآكل الجذري للثقة والنظام الاجتماعي، ومدى امتداد الصراع إلى الانتقام العرقي والقبلي.
5. الخاتمة والتوصيات
يُمثل الوضع في الفاشر اختبارًا تاريخيًا لالتزام المجتمع الدولي بمسؤولية الحماية. ففي سياق 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025، تأكد أن الأزمة على وشك وقوع فظائع جماعية كان من الممكن منعها. ويزداد خطر هذه الفظائع بسبب التوترات العرقية في الصراع والاستراتيجية العسكرية لإيقاع المدنيين في الفخ. لذا، فإن اتخاذ إجراءات فورية ومنسقة أمرٌ ضروري لمنع تفكك السودان ووقف الفظائع واسعة النطاق.
قرار ملزم من مجلس الأمن: ينبغي على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اعتماد قرار ملزم لإنشاء ممرات حماية إنسانية حول الفاشر لضمان وقف فوري للأعمال العدائية وفرض عقوبات في حال انتهاكها. في هذا السياق، ينبغي على المجتمع الدولي، من خلال آليات الأمم المتحدة، زيادة الضغط السياسي على المسؤولين الحكوميين، وخاصةً الميليشيات، لضمان سرعة إزالة العقبات الإجرائية وتطبيقها. تُعد هذه الخطوة الاستراتيجية بالغة الأهمية لمنع التلاعب السياسي بالمساعدات الإنسانية وضمان إيصالها بفعالية.
إن إنشاء آلية تحقيق دولية مستقلة في الفظائع المرتكبة في دارفور، وتسريع جمع الأدلة لمقاضاة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية، أمران أساسيان. وهذه خطوة حاسمة لاستعادة فعالية القانون الدولي.
من الضروري أيضًا أن تُعطى الأولوية لبرامج الدعم النفسي والاجتماعي والتعليمي طويلة الأمد للأطفال المتضررين من النزاع (مثل إعادة فتح المدارس، وإنشاء مساحات تعليمية مؤقتة) في ميزانيات التنمية الدولية. ونظرًا لحجم الصدمة الهائل، يُعدّ هذا الدعم بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي في المستقبل.
ولمنع خطر تفكك السودان، لا بد من التركيز في عملية سياسية شاملة على معالجة الأسباب التاريخية للإقصاء العرقي والسياسي في دارفور، وضمان عودة الجماعات المسلحة إلى طاولة المفاوضات، وإعطاء المدنيين السودانيين دوراً ذا معنى في عملية السلام.
مع سقوط الفاشر، نقلت قوات الدعم السريع عملياتها استراتيجيًا إلى إقليم كردفان. وهذا يزيد من احتمالية أن يؤدي الصراع إلى سيناريوهات جديدة أوسع نطاقًا وخطيرة في جميع أنحاء السودان.
في هذه المرحلة الحرجة، من الضروري أن توقف جميع الأطراف، وخاصة الإمارات العربية المتحدة، التي يُزعم أنها تدعم قوات الدعم السريع، فورًا جميع أشكال الدعم العسكري والسياسي والعام لمنع امتداد الصراع وإنهاء الأزمة الإنسانية.
في نهاية المطاف، تُمثل أزمة الفاشر انهيارًا إنسانيًا وسياسيًا متعدد الجوانب يُسرّع من تفكك سلطة الدولة في السودان. وقد أدى التنافس العسكري، وتفاقم الكارثة الإنسانية، وعدم فعالية المبادرات الدبلوماسية إلى انزلاق المنطقة في دوامة من عدم الاستقرار المستمر. واعتبارًا من 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025، يُعرّض تصاعد عنف الميليشيات والهجمات على المدنيين البلاد لخطر المجاعة والنزوح الجماعي. ويُشكّل سقوط الفاشر تهديدًا خطيرًا ليس فقط لبقاء المدينة؛ بل أيضًا لسلامة أراضي السودان ومستقبله السياسي.
لذلك، يُعدّ الوقف الفوري لإطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق، والمساءلة عن جرائم الحرب أمورًا بالغة الأهمية. ومن أجل سلام دائم، يجب على المجتمع الدولي دعم عملية سياسية شاملة تشمل المدنيين الدارفوريين والجهات الفاعلة المحلية.
_________________
مصادر مستفاد منها
المنظمة الدولية للهجرة، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، وبرنامج الأغذية العالمي. (23 أكتوبر/تشرين الأول 2025). تحث المنظمة الدولية للهجرة، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، واليونيسف، وبرنامج الأغذية العالمي على اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في السودان. برنامج الأغذية العالمي، الولايات المتحدة الأمريكية. https://www.wfpusa.org/news/iom-unhcr-unicef-wfp-urge-address-humanitarian-crisis/
مارسدن، د. ر. (18 سبتمبر 2024). تصاعد الحرب في السودان: ضرورة تنسيق الضغوط لمنع تجزئة البلاد. تشاتام هاوس. https://www.chathamhouse.org/2024/09/war-sudan-intensifying-coordinated-pressure-needed-prevent-countrys-fragmentation
مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. (2 أكتوبر/تشرين الأول 2025). السودان: دعوات تركية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المدنيين ومنع الفظائع واسعة النطاق في الفاشر [بيان صحفي]. https://www.ohchr.org/en/press-releases/2025/10/sudan-turk-calls-urgent-action-protect-civilians-and-prevent-large-scale
منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف). (9 يوليو 2025). الأزمة الإنسانية في دارفور… في الفاشر، عاصمة شمال دارفور (النسخة الرابعة). https://www.unicef.org/mena/media/28061/file/Snapshot_v4_9%20July%202025.pdf.pdf.pdf
أخبار الأمم المتحدة. (21 سبتمبر/أيلول 2025). الأمين العام للأمم المتحدة يُحذر من تفاقم الأزمة في الفاشر بالسودان. https://news.un.org/ar/story/2025/10/1166021
[1] مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، تقارير دورية 2023-2024
[2] تقرير منظمة العفو الدولية، نُشر في أواخر 2023
[3] المفوض السامي لحقوق الإنسان، تقارير صادرة في منتصف عام 2024
[4]زمزم مخيم لاجئين في دارفور، هجّرته ميليشيا الجنجويد، التي سُمّيت لاحقًا قوات الدعم السريع، عام ٢٠٠٣. يستضيف المخيم بشكل رئيسي لاجئين من مناطق وقرى الفاشر.
[5]أفادت غرفة طوارئ مخيم أبو شوك أن الهجوم استهدف المسجد الذي كان يتجمع فيه النازحون من المخيم. وقُتل في الهجوم عدد من المدنيين، من بينهم آدم عبد الله شرف، محافظ المخيم وأحد الشخصيات البارزة في المنطقة، والملك شريف، رئيس إدارة دار سوينا. للمزيد من المعلومات، انظر أيضًا: الجزيرة، [https://aja.ws/nkyyax]، تاريخ الوصول: 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2025.
[6]وجدت بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة في السودان، في تقريرها “حرب الفظائع” (5 سبتمبر/أيلول 2025)، أن المنظمة غير الحكومية استخدمت الجوع كجريمة إبادة خلال حصار الفاشر. علاوة على ذلك، أشارت أكاديمية جنيف، في تقريرها “حروب المياه: كيف يُحوّل الصراع في السودان حاجة إنسانية أساسية إلى سلاح” (4 أغسطس/آب 2025)، إلى أن الماء نفسه استُخدم كتكتيك عسكري متعمد.
[7]للاطلاع على هذا النقد، انظر تحليل إريك ريفز لأزمة دارفور (2004-2007) ودراسات في أدبيات العلاقات الدولية حول فشل مبدأ مسؤولية الحماية في دارفور. تصف هذه الدراسات السياسة الأمريكية بأنها “مساعدات إنسانية سخية مصحوبة بتهديدات لم تُنفذ ودبلوماسية غير كفؤة”، وخلصت إلى أن النظام الدولي يُظهر دورة هيكلية من الجمود في الاستجابة للأزمات.
[8]لمزيد من المعلومات التفصيلية، انظر أيضًا: الجزيرة، [https://aja.ws/nkyyax]، تاريخ الدخول: 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2025.
[9]المنظمة الدولية للهجرة، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، واليونيسيف، وبرنامج الأغذية العالمي، “نداء عاجل للتحرك لمعالجة الأزمة الإنسانية المتصاعدة في السودان”، 23 أكتوبر/تشرين الأول 2025.
[10]نتيجةً للأزمة الإنسانية الناجمة عن حصار الفاشر، لجأ المدنيون إلى طريق الهجرة القسرية غربًا إلى مديرية طويلة، الواقعة على بُعد حوالي 60 كيلومترًا غرب الفاشر. ويعاني المدنيون الذين يحاولون الفرار من الفاشر من الجوع وانعدام الأمن منذ أكثر من 500 يوم. وفي ظل ظروف الحصار، تستغرق الرحلة الشاقة للوصول إلى طويلة عادةً يومين، ويموت الكثيرون من الإرهاق والجفاف والجوع. ووفقًا لشهادات المدنيين الذين وصلوا إلى طويلة، عُثر على العديد من الجثث والعظام على طول الطريق. وهذا يدل على تدهور الأوضاع الإنسانية في المنطقة بشكل كبير، وأن أساسيات الحياة أصبحت بعيدة المنال.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

























