احتجاجات سابا سابا 2025 شهدت العاصمة الكينية نيروبي على إثرها صباح السابع من يوليو حالة استثنائية من الشلل الأمني، مع إغلاق الطرق الرئيسية، وتعليق حركة المواصلات العامة، وانتشار كثيف لقوات الشرطة، في استجابة مباشرة لدعوات التظاهر التي أطلقها ناشطون تحت لافتة “سابا سابا”.
ويعيد هذا التاريخ – الذي يعني “سبعة سبعة” بالسواحيلية – إلى الأذهان موجة الاحتجاجات الشهيرة التي اندلعت في مثل هذا اليوم من عام 1990، والتي شكّلت حينها محطة فاصلة في نضال الكينيين من أجل التعددية السياسية. لكن في نسخته الحالية، يحمل هذا الحراك مضمونًا مختلفًا؛ إذ تنبع دوافعه من تدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع الضرائب وتصاعد شعور عام بانفصال الدولة عن هموم المواطنين.
وتطرح هذه الاحتجاجات جملة من الإشكاليات السياسية والاجتماعية، أبرزها مدى اتساع الهوة بين السلطة والمجتمع، وحدود قدرة النظام على احتواء الغضب الشعبي عبر الوسائل الأمنية، وما إذا كانت كينيا مقبلة على دورة جديدة من التوترات أو على لحظة مراجعة وطنية ضرورية.
ولهذه الأهمية، يرصد هذا المقال تطورات احتجاجات سابا سابا 2025 في كينيا من خلال قراءة ثلاثة أبعاد مترابطة: منطلقات الحراك الشعبي وسياقه الرمزي، طبيعة الردّ الأمني وموقع الدولة في المشهد، ثم السيناريوهات المحتملة لمآلات هذا التوتر المتصاعد.
الشارع الكيني بين الذاكرة التاريخية وتكاليف الحياة
في وعي الكينيين السياسي، لا يُعدّ تاريخ السابع من يوليو مجرد رقم، بل يمثل لحظة مفصلية من التاريخ الوطني تُستدعى كلما علا صوت الشارع بحثًا عن التغيير. فقد اندلعت في هذا اليوم من عام 1990 أولى المظاهرات المنظمة التي طالبت بإنهاء نظام الحزب الواحد وفتح المجال أمام التعددية السياسية.
وقاد تلك التحركات رموز بارزة من المعارضة، من بينهم الناشطان تشارلز روبيا وكينيث ماتيبا، اللذان تحدّيا النظام آنذاك ودفعا ثمن ذلك اعتقالًا وقمعًا. لم تكن مطالب المتظاهرين آنذاك محصورة في تعديل قانوني أو اقتصادي، بل كانت صرخة عارمة ضد احتكار السلطة،
إنّ الالتقاء بين رمزية التاريخ وقسوة الواقع هو ما يمنح احتجاجات 2025 طابعًا مركبًا، فهي ليست نسخة مكررة من احتجاجات 1990، لكنها بلا شك تنهل من روحها.
وتأسيسًا لمطلب ديمقراطي عميق تَمثّل لاحقًا في إقرار نظام تعددي سمح بتعدد الأحزاب وإطلاق بعض الحريات. ومن هنا جاءت رمزية “سابا سابا” كمصطلح سياسي، متجاوزًا مدلوله الزمني، ليصبح تعبيرًا عن استعادة إرادة الشعب حين تتعطل آليات الإصغاء الرسمية.
وبعد مرور 35 عامًا على تلك اللحظة التأسيسية، يبدو أن الذاكرة الوطنية عادت إلى السطح من جديد، ولكنها تلاقت هذه المرة مع واقع معيشي خانق. فقد جاءت احتجاجات 2025 في سياق يتسم بتصاعد الضغط الاقتصادي على المواطن العادي، نتيجة سياسة ضريبية متشددة تبنتها حكومة الرئيس ويليام روتو، شملت زيادات كبيرة في أسعار الوقود والكهرباء والسلع الأساسية، وهو ما اعتُبر انقلابًا على خطاب انتخابي تعهّد بانحياز واضح للفقراء والكادحين.
المفارقة أن الرئيس الحالي، الذي صعد إلى السلطة بدعم من الطبقات الشعبية، بات يواجه اليوم غضبًا من ذات القواعد التي أوصلته إلى الحكم، في مشهد يعكس تحوّلًا سياسيًا داخليًا يزداد تعقيدًا.
ليست المظالم الاقتصادية وحدها هي التي دفعت الشارع إلى استدعاء “سابا سابا”، بل إن تراكم شعور بعدم الفعالية الديمقراطية وتراجع الثقة في مؤسسات الدولة لعبا دورًا محوريًا في إعادة توجيه الاحتجاج من مجرد تعبير عن السخط المعيشي إلى فعل سياسي ذي دلالات أعمق.
هذا الالتقاء بين رمزية التاريخ وقسوة الواقع هو ما يمنح احتجاجات 2025 طابعًا مركبًا، فهي ليست نسخة مكررة من احتجاجات 1990، لكنها بلا شك تنهل من روحها، وتطرح في الآن ذاته أسئلة جديدة حول جدوى المسار الديمقراطي في ظل أزمات اقتصادية متلاحقة ومحدودية القنوات المؤسسية للتعبير والتأثير.
وفي ظل هذا التداخل بين الرمزي والمعيشي، تبرز حركة الشارع الحالي كمرآة تعكس حجم التوتر الكامن في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتعيد طرح سؤال قديم – جديد: متى تصغي السلطة لصوت التاريخ حين يتكلم من الشارع؟
قبضة أمنية مشددة في مواجهة موجات الغضب الشعبي
في مقابل التصاعد الملحوظ في نبرة الغضب الشعبي، جاءت استجابة الدولة الكينية هذه المرة مدفوعة بهاجس أمني واضح، يتجلّى في حجم الانتشار العسكري والشرطي الواسع داخل العاصمة نيروبي ومحيطها.
فمنذ مساء السادس من يوليو، شرعت الأجهزة الأمنية في تنفيذ خطة احترازية استباقية تمثلت في إقامة عشرات الحواجز على مداخل المدينة الرئيسية، وتفتيش الحافلات الخاصة والعامة، بل واحتجاز بعضها تحت شبهة نقل متظاهرين.
في صباح يوم الاحتجاج، كانت نيروبي أشبه بمدينة تحت الطوارئ؛ طرق مغلقة، نقاط تفتيش ممتدة، وانتشار لعناصر مكافحة الشغب في الساحات والمفاصل الاستراتيجية، خاصة بالقرب من مبنى البرلمان ومقر الرئاسة.
هذا الحضور الأمني المكثف لم يكن معزولًا عن سياق التوتر السابق، إذ شهدت البلاد موجة احتجاجات عارمة في يوليو 2023، حين اقتحم متظاهرون مبنى البرلمان اعتراضًا على مشروع قانون مالي وصف آنذاك بأنه مجحف. ورغم تراجع الحكومة عن بعض بنوده، إلا أن المشهد أفرز تحوّلات واضحة في العلاقة بين الدولة والمواطن، حيث بات الاحتجاج أداة ضغط فعالة، ولكن في مقابلها تصاعدت الإجراءات الردعية.
وبالتالي، فإن التعامل الأمني مع مظاهرات سابا سابا هذا العام لم يأتِ كمجرد إجراء روتيني، بل كجزء من استراتيجية “احتواء الحشود” التي تتبناها السلطة لحماية النظام العام كما تصفه، ولمنع تكرار مشاهد اقتحام المؤسسات.
لكن هذه المقاربة تطرح تساؤلات عميقة حول الكلفة السياسية والأخلاقية لمنطق القبضة الحديدية، خاصة حين يتعلق الأمر بحراك يحمل في جوهره مطالب اجتماعية وسياسية مشروعة. فبدلًا من فتح قنوات للتفاوض أو تهيئة بيئة حوار وطني، اختارت السلطات أن تضاعف من أدوات الردع، وهو ما يُنبئ – من منظور سياسي – عن انكماش في هوامش التعبير وتراجع في ثقة السلطة بمشروعيتها التمثيلية.
كما أن هذا النوع من المواجهة – إذا استمر بوتيرته الحالية – قد يدفع قطاعات أوسع من المجتمع إلى الت radicalisation، أو إلى الانسحاب الكامل من الفضاء السياسي، ما يزيد من هشاشة العقد الاجتماعي.
ولعل ما يزيد المشهد تعقيدًا أن التعامل الأمني لا يستند فقط إلى هواجس العنف، بل يندرج ضمن تصور أوسع للسيطرة في لحظة تعتبرها الحكومة دقيقة من الناحية الاقتصادية والتمويلية، حيث باتت الخيارات محدودة، والمجال المالي ضيقًا، والدعم الدولي مشروطًا.
من هنا، يصبح الاحتجاج خطرًا مزدوجًا: تهديدًا للشرعية الداخلية، وضغطًا على الصورة الدولية للدولة. وفي ضوء ذلك، لا تبدو الإجراءات الأمنية خيارًا مؤقتًا بقدر ما هي تعبير عن اتجاه سياسي أكثر صرامة في التعامل مع التعبير الشعبي.
إن هذه المفارقة – بين مشروعية الحراك وحدّة الرد – تُعيدنا إلى سؤال جوهري في بنية الدولة الديمقراطية: هل يمكن حفظ النظام العام دون التضحية بالحق في التعبير؟ وهل تصنع الشرعية عبر الحواجز الحديدية، أم من خلال مؤسسات قادرة على الاستيعاب والاحتواء؟
احتجاجات سابا سابا بين التصعيد وإمكانيات التهدئة
بين تصاعد التوتر الميداني في نيروبي وتزايد الأصوات المطالبة بتوسيع الاحتجاجات إلى مدن أخرى، تقف كينيا اليوم على مفترق طرق حساس. فحجم الغضب الشعبي الذي أظهرته مظاهرات سابا سابا، رغم كل العراقيل الأمنية، يعكس حالة تراكم غير مسبوقة من السخط الاجتماعي والسياسي، يُرجّح أن لا تنتهي بانتهاء اليوم الرمزي.
ومع غياب بوادر واضحة لانخراط حكومي في حوار جاد، يبرز احتمال التصعيد كأحد السيناريوهات المقلقة، خاصة إذا ما تكررت حوادث العنف أو الاعتقال أو وُثّقت انتهاكات بحق المحتجين. فالمزاج العام، كما تعكسه وسائل الإعلام المحلية ومواقف بعض الشخصيات المعارضة، بات أكثر استعدادًا للذهاب بعيدًا في المطالبة بإصلاحات جوهرية، وليس مجرد إلغاء إجراءات ضريبية أو تعديل قوانين.
لكن في المقابل، ما زالت هناك نوافذ محتملة للتهدئة، وإن كانت ضيقة وتحتاج إلى مقاربات سياسية مرنة. فالرئيس روتو – رغم تراجعه سابقًا عن قانون المالية تحت ضغط الشارع – لم يصدر حتى الآن موقفًا مباشرًا من احتجاجات سابا سابا، وهو صمت قد يُقرأ باعتباره تريثًا لتقدير الموقف، لكنه أيضًا قد يُفهم كغياب للرغبة في احتواء الأزمة عبر أدوات سياسية.
في حال بادرت الرئاسة أو التحالف الحكومي إلى فتح قنوات حوار مع شخصيات مدنية وممثلين عن الفئات المتضررة، أو أعلنت عن مراجعة جدية للسياسات الضريبية، فقد يشكّل ذلك مدخلًا لإعادة ضبط المشهد قبل أن ينفلت نحو مزيد من التوتر.
اللافت أن الطابع غير الحزبي نسبيًا لهذه الاحتجاجات يمنحها فرصة لأن تكون منصة جامعة لتعبيرات اجتماعية متنوعة، وهو ما يعزز إمكانات احتوائها إن أُديرت بذكاء سياسي. كما أن محدودية العنف حتى الآن، وغياب الاشتباكات المباشرة واسعة النطاق، يُبقي على هامش للتراجع وتجنب التصعيد. غير أن هذا الهامش يتقلص سريعًا كلما طالت مدة الجمود، وازدادت الإجراءات الأمنية دون مرافقة سياسية واضحة.
في النهاية، تبدو كينيا أمام معادلة دقيقة: بين غضب شعبي آخذ في التوسع، ومؤسسة حكم مطالبة بإعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية. والمحصلة ستتوقف على قدرة النظام في قراءة اللحظة، ليس كتهديد آني، بل كفرصة نادرة لإعادة ترميم العلاقة المتآكلة بين الدولة ومواطنيها.
الخاتمة: خارطة خروج من لحظة الاختبار
تشير احتجاجات سابا سابا 2025 إلى لحظة دقيقة تعكس التقاء التاريخ السياسي الكيني مع واقع اقتصادي متأزم، في ظل استجابة أمنية مشددة ومشهد شعبي متحرك يصعب التنبؤ بمساره. هذا التفاعل المركّب لا يعكس أزمة عابرة، بل يعيد طرح أسئلة عميقة حول العقد الاجتماعي في البلاد، وجدوى السياسات المتبعة، وحدود الصبر الشعبي.
كينيا اليوم أمام خيار واضح: احتواء الأزمة لتجديد الشرعية، أو تفويتها بما قد يفتح الباب لتحديات أكثر حدة مستقبلاً.
وفي ضوء هذا السياق، تبرز الحاجة إلى مقاربات أكثر اتزانًا من قبل مختلف الأطراف ذات الصلة بالشأن الكيني:
- لصنّاع القرار في كينيا: يتطلب الوضع تحوّلًا من منطق الإدارة الأمنية للأزمات إلى تبنّي أطر سياسية واقتصادية تستجيب لتطلعات الشارع، عبر الحوار الفعلي وإعادة تقييم السياسات الضريبية والإنفاق الاجتماعي.
- للمجتمع المدني والنقابات: تشكّل هذه اللحظة فرصة لإعادة تنظيم المطالب ضمن أطر مدنية سلمية ومؤسسية، بعيدًا عن الفعل الانفعالي، بما يعزز فرص التأثير ويوسّع دائرة التضامن الوطني.
- للشركاء الإقليميين والدوليين: من المهم دعم كينيا لا فقط كموقع استراتيجي، بل كحالة ديمقراطية تتطلب استثمارًا في الاستقرار القائم على العدالة الاجتماعية، وليس فقط في أمن الحدود أو كفاءة الأجهزة.
- للمؤسسات المالية الدولية: تظل شروط الدعم المالي ذات حساسية عالية، ومن الأجدى مواءمتها مع قدرة المواطن على الاحتمال، بما يحقق التوازن بين الاستقرار المالي والعدالة الاجتماعية.
إن اللحظات المفصلية لا تُقاس فقط بما يقع فيها، بل بما يُستخلص منها من دروس وتوجهات. وكينيا اليوم أمام خيار واضح: احتواء الأزمة لتجديد الشرعية، أو تفويتها بما قد يفتح الباب لتحديات أكثر حدة مستقبلاً.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.




























