في خطوة أثارت ردود فعل متباينة داخل إفريقيا وخارجها، أعلنت كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، متهِمة إياها بأنها أداة “قمع نيوليبرالية” تستهدف الدول الأضعف وتتغاضى عن جرائم القوى الكبرى.
وبررت الدول الثلاث قرارها بضرورة استعادة “السيادة القضائية” وتأسيس آليات محلية “أصيلة” لتحقيق العدالة، في مسعى يندرج ضمن توجه أوسع نحو فكّ الارتباط مع المؤسسات الإقليمية والدولية التي يُنظر إليها باعتبارها امتداداً لتركة استعمارية ثقيلة.
هذه الخطوة، رغم رمزيتها السيادية، تُعيد إلى الواجهة إشكاليات أعمق من مجرد انسحاب، تتعلق بحدود العدالة الدولية، وازدواجية المعايير في ممارسات المحكمة، وموقع إفريقيا في معادلات المحاسبة والمساءلة العالمية.
لكنّها في الوقت ذاته، تطرح تساؤلاتٍ حقيقية حول مآلات حقوق الضحايا، وإمكانات تحقيق العدالة في بيئة أمنية وسياسية هشّة، لا تزال تشهد تصاعداً في الانتهاكات من أطراف متعددة، سواء كانت جيوشًا نظامية، أو جماعات مسلّحة خارجة عن القانون.
وانطلاقًا من ذلك، سيناقش هذا المقال نقطتين جوهريتين، وهما: السياق التاريخي والسياسي الذي يفسّر هذا التحول الجذري في موقف دول الساحل من العدالة الدولية، والموازنة الصعبة بين مطلب السيادة الوطنية، وضرورات حماية الحقوق، ومكافحة الإفلات من العقاب في سياق إقليمي مضطرب.
أولا: عدالة انتقائية أم سردية مقاومة؟
إنّ قرار انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن فصله عن السياق التاريخي للعلاقة المتوترة بين إفريقيا والمؤسسات القضائية الدولية. فمن أصل 31 تحقيقاً فتحها مكتب الادعاء العام في المحكمة منذ 2002م، كانت 14 منها تخص دولًا إفريقية، غالبيتها بطلب مباشر من الحكومات ذاتها أو عبر إحالة من مجلس الأمن. ومع ذلك، فقد أدى تكرار محاكمة قادة أفارقة، والتغاضي عن جرائم ترتكبها قوى كبرى أو حلفاؤها، إلى تعزيز شعور عميق بالتحيّز والانتقائية.
هذه الانتقادات ليست جديدة، ففي عام 2016م، أعلنت جنوب إفريقيا، إلى جانب بوروندي وغامبيا، نيتها الانسحاب من المحكمة للسبب ذاته، قبل أنْ تتراجع بريتوريا لاحقاً تحت ضغط القضاء المحلي.
والرئيس الأوغندي يويري موسيفيني نفسه وصف المحكمة بـ “أداة غربية استعمارية“، بينما كانت إثيوبيا ودول أخرى في الاتحاد الإفريقي تطالب بتعديل آليات الإحالة والمساءلة فيها. وبحسب تقرير لمجموعة الأزمات الدولية (ICG)، فإنّ غياب إصلاحات ملموسة في المحكمة منذ سنوات غذّى الشعور بأنّ العدالة الدولية لا تُطبّق إلا على من لا يملكون أدوات الرد أو الردع.
لكنْ في المقابل، فإنّ استعمال سردية “الاستعمار القضائي” لا يمكن أنّ يُقرأ بمعزل عن السياق السياسي للأنظمة الحاكمة في الدول الثلاث. فجميعها تخضع لقيادات عسكرية جاءت عبر انقلابات أطاحتْ بأنظمة شبه ديمقراطية أو مدنية، وتواجه اتهاماتٍ جدية بارتكاب انتهاكات في سياق الحرب على الإرهاب أو في قمع المعارضة.
وفي الوقت الذي شكلتْ فيه النيجر ومالي وبوركينا فاسو تحالفاً سياسيّاً وأمنيّاً جديداً في “تحالف دول الساحل“؛ فإنّ هذا الخروج المتزامن من المحكمة يعزز خطابات الانفصال عن المنظومة الدولية، وربما يشكل رسالة سياسية أكثر من كونه خطوة قانونية مدروسة.
وبينما تصف هذه الدول المحكمة بأنها تتجاهل الجرائم المرتكبة من قِبل القوى الكبرى، فإنّ التحدي الحقيقي يكمن في تقديم بدائل فعالة. هل ستحقق “الآليات المحلية للعدالة” التي أعلنتها فعليّاً مساءلة جدية؟ أم أنّ الانسحاب سيكون مجرد أداة لتحصين الأنظمة من المساءلة المستقبلية؟ في ظل هذه الأسئلة، تبقى مسألة “السيادة” محل اختبار، لا مجرد شعار.
بناء سيادة قضائية أم هندسة حصانة سياسية؟
الحديث عن “إرساء آليات عدالة محلية” ليس بالجديد في إفريقيا؛ بل كان مطلباً متكرراً لدى مناصري العدالة الانتقالية والسيادة القضائية. لكن التجربة أثبتتْ أنّ بناء منظومة قضائية نزيهة وفعالة يتطلب ما هو أكثر من الإرادة السياسية، خاصة في دول تُعاني من ضعف المؤسسات، وتداخل الصلاحيات، والضغوط العسكرية.
ففي مالي، على سبيل المثال، أُسْندتْ ملفات جرائم الحرب وجرائم الإرهاب إلى القضاء العسكري، وسط اتهامات من منظمات دولية كـ “هيومن رايتس ووتش” بغياب الشفافية في المحاكمات، وبتواطؤ بعض الأجهزة في تجاوزات بحق مدنيين.
وفي بوركينا فاسو؛ حيث يواجه النظام تمردًا مسلحًا وعمليات إرهابية متصاعدة، تعاني السلطات القضائية من نقص حادٍّ في الكوادر والإمكانات، في وقت تتوالى فيه تقارير دولية عنْ إعدامات ميدانية، واختفاءات قسرية، وعنف عشوائي في العمليات العسكرية.
أمّا النيجر، التي تشهد مرحلة انتقالية صعبة بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، فتمر بحالة فراغ مؤسسي في المؤسسات القضائية العليا، مما يثير الشكوك حول قدرة الدولة على ضمان محاكمات عادلة لمنْ قد يُتهمون بانتهاك القانون الإنساني أو الدولي.
وفي ظل هذه التحديات، فإنّ طرح “العدالة السيادية” كبديل للمحكمة الجنائية الدولية يبدو أكثر طموحًا منه واقعية. إذْ لا يمكن بناء ثقة داخلية أو مصداقية دولية من دون إصلاح شامل للقضاء، وضمان لحرية التعبير، ودعم للمجتمع المدني، وتمكين لوسائل الإعلام من لعب دور الرقابة.
كما أنّ الشراكات البديلة، سواء كانت مع روسيا أو الصين أو غيرها، لا تُغني عن الحاجة لبناء مؤسسات وطنية قادرة على ضبط الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها.
فالقلق الذي تبديه منظمات حقوق الإنسان بشأن الانسحاب له ما يبرره، فغياب آلية دولية للرقابة قد يفتح المجال أمام إفلات واسع من العقاب، خاصة في ظل وجود جماعات مسلحة، وأوضاع إنسانية هشة، وحالات نزوح وتهجير لم تُعالج بعد.
وفي هذا السياق، لا يبدو أنّ الانسحاب من المحكمة هو انتصار للسيادة، بقدر ما هو اختبار لقوة الدولة في بناء العدالة من الداخل. والسيادة، حين تنفصل عن المحاسبة، قد تتحول إلى غطاء للسلطة، لا حماية للحقوق.
الخلاصة
لا يمكن فصل قرار مالي وبوركينا فاسو والنيجر بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية عن مسار أوسع من المراجعات السيادية التي بدأتها هذه الدول في أعقاب تحولاتٍ عميقةٍ في بنية السلطة والنظام الإقليمي.
فكما مثّل انسحابها من مجموعة الإيكواس خطوة صادمة لكثير من المراقبين، الذين توقّعوا حينها أنْ تعود سريعًا إلى “أحضان المنظومة الإقليمية” تحت ضغط العزلة والعقوبات، يأتي قرارها الأخير بمغادرة المحكمة الجنائية الدولية ليؤكد على أنّ الرهانات على الانكفاء لم تَصْدُق، وأنّ هذه الأنظمة ماضية في بناء هندسة جديدة لتحالفاتها الإقليمية والدولية، وفق تصوراتها الخاصة لمعنى السيادة والعدالة.
فلقد تحرّكت هذه الدول، أولاً، لفك الارتباط مع مؤسسات لم تَعُد تراها ضامنة لمصالح شعوبها، ثم بدأت تطرح –ولو بشكل تدريجي– آليات بديلة تستند إلى الشرعية المحلية، والمرجعية الثقافية، والاستقلال عن المراكز الغربية التقليدية.
صحيح أنّ هذه المسارات لا تزال محفوفة بالتحديات، ومثقلة بضغوط داخلية وخارجية، إلا أنّ القراءة المتأنية تشير إلى وجود إرادة سياسية جادّة في إعادة ترتيب العلاقات الخارجية من موقع الندية، لا التبعية.
وفي هذا السياق، فإنّ الخروج من المحكمة الجنائية لا ينبغي أنْ يُقرأ كتهرّب من المساءلة؛ بل كلحظة من لحظات مراجعة العلاقة مع نظام عدالة دولي لم يُنصف حتى الآن ذاكرة الجنوب العالمي، ولم يحمِ أرواح الضحايا في فلسطين أو العراق أو الساحل الإفريقي نفسه.
لكن التحدي الحقيقي قد يكمن في تحويل هذا الخروج إلى مشروع بناء داخلي يستعيد ثقة المواطنين، ويُظهر أنّ الاستقلال عن المؤسسات الغربية لا يعني الانفلات من المحاسبة؛ بل التزاماتٍ أعمق بمبادئ الإنصاف، تُصاغ من رحم الأرض لا من غرف الأمم الباردة.
وفي نهاية المطاف، يمكننا أن نخلص إلى أنّ ما يجري اليوم في الساحل هو اختبارٌ حيّ لمفهوم السيادة في القرن الحادي والعشرين؛ سيادة لا تنفصل عن العدالة، ولا تساوم على الكرامة، ولا تُقاس بدرجة الرضى الغربي؛ بل بمدى قدرتها على تحقيق الأمن القانوني، والعدالة الاجتماعية، والانتماء السيادي الحقيقي.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.










