فقدت كينيا، والقارة الإفريقية عمومًا، أحد أبرز رموزها السياسية والديمقراطية بوفاة الزعيم الكيني رايلا أودينغا (Raila Amolo Odinga)، رئيس الوزراء الأسبق وزعيم المعارضة التاريخي، عن عمر ناهز الثمانين عامًا، إثر إصابته بأزمة قلبية مفاجئة أثناء زيارته إلى الهند.
أكدت مستشفى ديفاماثا (Devamatha Hospital) في ولاية كيرالا بجنوب الهند، أن أودينغا نُقل إليها صباح الأربعاء بعد انهياره أثناء نزهة صباحية قرب منتجع طبي في مدينة كوتشي (Kochi)، حيث كان يخضع لعلاج طبيعي (أيرفيدا) لمشكلات في القلب والضغط. وأوضحت إدارة المستشفى أنه أصيب بتوقف مفاجئ في عضلة القلب، ولم تنجح محاولات الإنعاش التي استمرت أكثر من نصف ساعة.
وأعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في بيان على منصة “إكس” حزنه على وفاة أودينغا، واصفًا إياه بأنه “رجل دولة بارز وصوت ديمقراطي مؤثر في إفريقيا”. كما صدرت بيانات نعي من قادة دول الاتحاد الإفريقي ورؤساء سابقين في نيجيريا وجنوب إفريقيا، أكدوا فيها أن رحيله “يمثل خسارة لقيم النضال والديمقراطية في شرق إفريقيا”.
في العاصمة نيروبي، خيّم الحزن على البلاد مع تدفق آلاف المواطنين إلى مقر إقامته في حي كارين لتقديم العزاء، فيما أعلن الرئيس ويليام روتو (William Ruto) الحداد الوطني لسبعة أيام، وأمر بتنكيس الأعلام في جميع أنحاء البلاد. وأشاد روتو، الذي كان خصمًا سياسيًا ثم شريكًا مؤخرًا، بخصال أودينغا قائلاً: “لقد كرس حياته لخدمة وطنه، ودافع بشجاعة عن التعددية والحرية السياسية في أصعب مراحل تاريخنا الحديث”.
إرث سياسي طويل
ارتبط اسم رايلا أودينغا بالحياة السياسية الكينية منذ أكثر من أربعة عقود. وُلد في 7 يناير 1945 في مدينة كيسومو على ضفاف بحيرة فيكتوريا، وهو نجل جاراموجي أوجينغا أودينغا (Jaramogi Oginga Odinga)، أول نائب رئيس لجمهورية كينيا بعد الاستقلال. درس الهندسة الميكانيكية في ألمانيا الشرقية، وعاد إلى بلاده في السبعينيات ليبدأ مسيرته المهنية والأكاديمية بجامعة نيروبي، قبل أن ينخرط في النشاط السياسي المعارض ضد نظام الرئيس دانيال أراب موي (Daniel arap Moi).
كان أودينغا أحد الأصوات البارزة في الدعوة إلى التعددية الحزبية في الثمانينيات، ودفع ثمن مواقفه المعارضة غاليًا، إذ اعتُقل عدة مرات وقضى ما يقرب من تسع سنوات في السجن، بينها فترات في الحبس الانفرادي. اتُّهم في 1982 بالمشاركة في دعم انقلاب عسكري فاشل ضد نظام موي، لكن التهم أُسقطت لاحقًا، وبقي رمزًا للنضال السياسي السلمي.
عاد إلى المشهد بقوة بعد خروجه من السجن في مطلع التسعينيات، ليؤسس لاحقًا حزب الحركة الديمقراطية البرتقالية (ODM)، الذي أصبح من أبرز أحزاب المعارضة في كينيا. في عام 2007، قاد أودينغا واحدة من أكثر الانتخابات إثارة للجدل في تاريخ البلاد أمام الرئيس مواي كيباكي (Mwai Kibaki)، حيث أسفرت النتائج المتنازع عليها عن أعمال عنف دامية قُتل فيها أكثر من 1100 شخص ونزح نحو 600 ألف آخرين، ما دفع بالبلاد إلى حافة الحرب الأهلية.
بوساطة الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي، جرى التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة بين الطرفين، تولّى بموجبه أودينغا منصب رئيس الوزراء (2008–2013)، وهي تجربة اعتُبرت بداية مرحلة جديدة في التحول السياسي الكيني. ورغم محاولاته اللاحقة للفوز بالرئاسة في 2013 و2017 و2022، لم يتمكن من تحقيق حلمه الأكبر بالوصول إلى القصر الرئاسي، لكنه ظل فاعلًا رئيسيًا في كل التحولات السياسية الكبرى في البلاد.
تحالف مع الخصم وتبدل المشهد
شهد العام 2023 ذروة غير متوقعة في مسيرة أودينغا، حين وقّع اتفاقًا سياسيًا مع الرئيس ويليام روتو بعد سنوات من التوتر والاحتجاجات، سمح بمشاركة المعارضة في رسم السياسات الحكومية وتعيين عدد من رموز حزبه في الحكومة. ورغم انتقادات بعض أنصاره لهذا التقارب، اعتبره آخرون خطوة نحو المصالحة الوطنية وتعزيز الاستقرار السياسي.
غير أن أودينغا لم يبتعد عن طموحه الإقليمي، إذ ترشح في مطلع عام 2025 لمنصب رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي بدعم من عدة دول، إلا أن محاولته باءت بالفشل بعد حملة تصويت معقدة في أديس أبابا.
شخصية ملهمة ورمز ديمقراطي
عرف عن أودينغا أنه سياسي لا يكلّ، يجمع بين الكاريزما الشعبية والقدرة على الحشد الجماهيري، وكان يلقب محليًا بـ“بابا”، وهي كلمة سواحيلية تعني “الأب”، في إشارة إلى مكانته الرمزية في الوعي الشعبي الكيني. وقد ساهم في إدخال إصلاحات دستورية جوهرية عام 2010، عززت مبدأ الفصل بين السلطات واللامركزية في الحكم.
وفي حديث له عام 2017، بعد خسارته الرابعة في الانتخابات، قال لوكالة أسوشيتد برس: “حين تفقد الديمقراطية معناها، لا يبقى أمام الشعوب إلا المقاومة السلمية. هذه ليست فوضى، بل دفاع عن الشرعية.”
برحيل أودينغا، تطوي كينيا صفحة من أهم مراحلها السياسية منذ الاستقلال. ومع غياب هذه الشخصية التي مثّلت رمز المعارضة والإصلاح لعقود، تتجه الأنظار إلى ما إذا كانت البلاد قادرة على إنتاج قيادة جديدة تحمل إرثه الديمقراطي دون أن تنزلق إلى الاستقطاب القديم الذي لطالما حاول تجاوزه.
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.









