في لحظة تُلامس أعماق العدالة الرحيمة وتكشف عن تحوّلات متأنّية في فلسفة العقاب، وقّع رئيس جمهورية غانا، نانا أدو دانكوا أكوفو-أدو، يوم 19 أغسطس 2025، مرسومًا رئاسيًا بالعفو عن 998 سجينًا، في واحدة من أوسع عمليات العفو الجماعي التي تشهدها البلاد في تاريخها الحديث.
لم يكن هذا القرار مجرّد استجابة لتوصية مجلس خدمات السجون؛ بل عكس أيضًا نزوعًا واضحاً نحو إعادة التفكير في معايير العدالة، وأدوات التخفيف من الاكتظاظ الحاد داخل المؤسسات العقابية، واعترافًا ضمنيًا بحدود النظام العقابي التقليدي في مواجهة التحديات الاجتماعية والحقوقية المتصاعدة.
وشمل العفو فئات متنوعة من النزلاء، من بينهم 787 من مرتكبي الجرائم لأول مرة، و33 حالة صحية خاصة، إلى جانب تحويل أحكام الإعدام لـ 87 سجينًا إلى السجن المؤبد، وهو ما يُعد تطورًا مثراً للاهتمام في تعامل الدولة مع ملف عقوبة الإعدام.
كما يأتي هذا القرار في ظل اعتماد البلاد مؤخرًا لنظام الإفراج المشروط (Parole)، في خطوة تُوصف بأنها تاريخية لإعادة تأهيل السجناء وإدماجهم التدريجي في المجتمع، التي حظيت بإشادة من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.
قد يفتح هذا الحدث البابَ على مصراعيه أمام أسئلة جوهرية حول مستقبل السياسة الجنائية في غانا، وإمكانية البناء على هذه المبادرات لتحديث المنظومة القضائية برمتها، وملاءمتها للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
فبين الحاجة إلى تقليل الاكتظاظ، وتحديات إعادة الإدماج، ومسؤولية الدولة عن تحقيق العدالة الوقائية لا الانتقامية، تبرز جدلية مستمرة تتقاطع فيها السياسة والقانون والمجتمع.
ولهذه الأهمية، سنقدم قراءة موسعة في هذا التقرير لثلاثة محاور أساسية تُحيط بهذا القرار الرئاسي من مختلف جوانبه، وهي: التعرف على خلفيات القرار وأبعاده، وأزمة الاكتظاظ في سجون غانا، وأخيرًا، مسارات الإصلاح والعدالة التصالحية في الأفق الغاني.
أولًا: العفو الكبير… أبعاد إنسانية أم إجراءات مؤقتة؟
في تفاصيل القرار، أُطْلِق سراح 787 سجينًا ارتكبوا جنحًا للمرة الأولى، في خطوة تشير إلى إدراك الدولة لخطورة الاكتظاظ داخل السجون، مع الحفاظ على التوازن بين الأمن العام والعدالة التصحيحية. كما خُفّفَ 87 حكمًا بالإعدام إلى السجن المؤبد، في إشارة واضحة إلى تراجع ضمني عن عقوبة الإعدام، بينما حُوِّلت أحكام مؤبدة لـ 51 سجينًا إلى أحكام محددة بالسجن لعشرين عامًا.
وتضمنت القائمة أيضاً حالات عفو إنساني، شملت 33 سجينًا يعانون من أمراض مزمنة، بالإضافة إلى سجناء تقدّموا في السنّ، وآخرين من فئة الأمهات.
وبذلك، يتضح أنّ فلسفة القرار مزجت بين البُعد الإنساني والواقعية السياسية، في وقت تُواجه فيه إدارة السجون تحديات لوجستية واجتماعية.
لا تعكس هذه الأرقام حجم القرار فحسب؛ بل نوعيته. ففي بلد يبلغ عدد نزلاء سجونه أكثر من 14 ألفًا، بينما لا تتسع منشآته إلا لـ 10,265 نزيلًا، تصبح إجراءات العفو ضرورة لا ترفًا.
وبذلك، يتحوّل العفو من فعل استثنائي إلى خيار سياسي عاجل لمواجهة الضغوط الميدانية.
ثانيًا: الاكتظاظ المزمن في السجون الغانية… أزمة تتجاوز الجدران
تُظهر بيانات هيئة السجون الغانية أنّ المؤسسات العقابية في البلاد تعمل بأكثر من 130% من قدرتها الاستيعابية. هذا الواقع، الذي ينعكس في ظروف احتجاز لا تفي بالمعايير الدولية، أدى إلى تنامي الأصوات المطالِبة بإصلاح جذري يشمل بنية السجون ومنظومة العدالة الجنائية على حدّ سواء.
فالاحتجاز السابق للمحاكمة، الذي قد يمتد في بعض الحالات إلى أكثر من 6 سنوات دون إصدار حكم نهائي، يفاقم هذه الأزمة. وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية محلية ودولية “سجنًا بلا حكم“، ومصدرًا لظلم مركّب يقع فيه البريء مع المدان، والضعيف مع العنيف.
إنّ الاكتظاظ في السجون ليس مجرد رقم؛ بل بيئة تولّد الاحتقان والعنف، وتُقلّص من قدرة النظام القضائي على تقديم عدالة فعّالة وذات مصداقية، لاسيما في القضايا الجنحية التي تُشكّل غالبية السجناء المُفرج عنهم.
كما أنّ السجون الغانية تعاني من نقص شديد في المرافق الصحية، وبرامج التأهيل، والتقسيم الوظيفي للنزلاء، ما يحدّ من دورها الإصلاحي، ويحوّلها إلى مراكز للانتكاس الاجتماعي بدلًا من إعادة الإدماج. وفي هذا السياق، يصبح العفو أداة لتخفيف العبء؛ لكنه لا يُعالج جذور المشكلة.
ومن المهم التذكير بأنّ الاكتظاظ في السجون ليس مجرد رقم؛ بل بيئة تولّد الاحتقان والعنف، وتُقلّص من قدرة النظام القضائي على تقديم عدالة فعّالة وذات مصداقية، لاسيما في القضايا الجنحية التي تُشكّل غالبية السجناء المُفرج عنهم.
ثالثًا: إصلاح العدالة العقابية… بين العفو والإفراج المشروط
لا يُعدّ العفو الرئاسي الإجراء الوحيد الذي اتخذته الحكومة الغانية مؤخرًا في مسار تحديث منظومتها العقابية؛ فقد أقرّ البرلمان هذا العام نظام الإفراج المشروط (Parole)، كآلية قانونية جديدة تمنح السجناء ذوي السلوك الحسن فرصة لإعادة الاندماج في المجتمع وفق شروط محددة.
يُمثّل هذا التحوّل المفاهيمي من “السجن كعقاب” إلى “السجن كفرصة للإصلاح” لحظة مفصلية في مسيرة العدالة في غانا. وقد وصفت مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إدخال هذا النظام بأنه “علامة فارقة في إصلاحات العدالة الإفريقية.”
كما دشّنت الحكومة برامج تأهيلية جديدة داخل السجون، تشمل التدريب الزراعي والمهني، فضلاً عن إدخال أنظمة تصنيف للنزلاء تفصل بين المحكومين بجرائم خطيرة وأولئك المتورطين في جنح بسيطة. هذه المبادرات، وإن كانت لا تزال في مراحلها الأولى، تمثل وعودًا بتصحيح المسار.
لكن نجاح هذا التوجّه يبقى مرهونًا بتكامل جهود التشريع، والتمويل، والتوعية المجتمعية. فالعفو والإفراج المشروط دون دعم حقيقي لإعادة الإدماج والتأهيل، قد يتحولان إلى مجرد تدوير للأزمة بدلًا من حلّها من جذورها.
الخاتمة
وفي ختام هذا المشهد الذي جسّد تلاقي العدالة بالرحمة، والسياسة بحكمة التخفيف، تمثّل مبادرة العفو الجماعي في غانا أكثر من مجرد إجراء إداري أو استجابة لحالة طارئة؛ إنها ومضة في مسار طويل نحو إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمذنب، بين الجريمة والعقوبة، وبين الإنسان وحريته.
وإذا كان القرار قد لامس وجدان المجتمع برسائل إنسانية قوية، فإنه يضع أمام الدولة تحديًا أكبر؛ ألا تكتفي بالرمزية، بل تنخرط في إصلاح جذري يلامس جوهر منظومتها العقابية.
وما بين الإرادة السياسية التي ظهرت في لحظة التوقيع، والحاجة الموضوعية إلى إصلاح شامل، يبقى سؤال المستقبل معلقًا على قدرة غانا على تحويل هذا العفو إلى نقطة انطلاق نحو عدالة إصلاحية مستدامة، تُعيد دمج الإنسان لا عزله، وتُعيد بناء الثقة في المؤسسات لا فقط التخفيف من أعبائها.
فهل تكون أكرا، كما كانت سبّاقة في التجربة الديمقراطية، رائدةً أيضًا في بلورة نموذج عدالة إصلاحية إفريقية يوازن بين الكرامة والأمن، ويعيد للمؤسسات وظيفتها التربوية والتأهيلية؟ أم يبقى العفو ومضة عابرة في ظلام السجون المكتظة؟
اكتشاف المزيد من أفريكا تريند
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.





























